في سياق الحراك السوري العام الذي شهدته الأشهر الثلاثة الأخيرة يمكن الوقوف عند نقطتين، تتجسّد الأولى في أن العدد الأكبر من اللقاءات والمؤتمرات التي أُقيمت في داخل سوريا وفي أوروبا قد جمعت أطرافاً سياسية ذات تسميات متعددة ولكنها تشترك في تجانسها السياسي، أي لم تكن تحقق اختراقاً نوعياً للاصطفافات السياسية السابقة، ولعل هذا الأمر هو ما جعل المخرجات التي أفضت إليها تلك اللقاءات تكاد تكون متشابهة إلى حدّ التماثل، وذلك من جهة تأكيد الجميع على رفض التطبيع العربي والدولي مع نظام الأسد وكذلك التأكيد على الحل السياسي الذي تضمنته القرارات الأممية، وبقدر ما كان هذا الناتج المتجانس يشير إلى حالة توافقية بين الأطراف، إلّا أنه من جهة أخرى لا يجسّد أي مسعى اجتهادي جديد يدل على نوع من كدّ الذهن أو التحفيز على التفكير في حقول لم تطلها المحاريث، ذلك أن الوقوف عن المطالبة بتطبيق القرارات الأممية قد تحوّل إلى حالة شعاراتية في ظل يقين الجميع، بمن فيهم المشاركون في تلك المؤتمرات أو القائمون عليها، أن مطالبة الأسد بتطبيق الحل الأممي تتماثل تماماً – من حيث خواء الفحوى – مع مطالبة الكيان الصهيوني بتطبيق القرارين 242 – 383 ، وربما تحيل حالة الإصرار على الاكتفاء بتلك المطالب والركون لجانبها التخديري، إلى رغبة مستبدة لدى معظم القوى السورية في إيثار الراحة والأمان في حرم المقولات الآمنة ذات البرودة الشديدة وعدم الدخول في مغامرة التفكير التي من شأنها إثارة الصخب والاستفزاز للقناعات السائدة.
يُستثنى من الحراك السابق ما طرحه المجلس العسكري السوري في بيانه الصادر في السادس والعشرين من أيار الماضي، وكذلك ما جاء في المقابلة التي أجرتها صحيفة القدس العربي مع رئيس المجلس العميد مناف طلاس، حول مفهوم (حركة التحرر الوطني)، وبعيداً عن أي حكم قيمة على هذا الطرح، إلّا أنه يمكن الإشارة إلى أن اقتراح خروج المعارضة السورية من الصيغ التقليدية الراكدة والبحث عن صيغ نضالية جديدة تكون نتاج وعي السوريين وتفكيرهم، وبعيدة في الوقت ذاته عن الارتهان والتبعية للخارج، كما جاء في بيان المجلس، لهو أمرٌ يستدعي الوقوف عنده.
الوثيقة أفصحت عن رغبة الطرفين بأن يكون التفاهم الجديد تمهيداً أو نواة لجبهة وطنية ديمقراطية جديدة تضم مجمل أطياف المعارضة السورية وفقاً لما جاء في الوثيقة
أمّا النقطة الثانية فهي لا تخرج أيضاً عن سياق الحراك السوري ذاته، ولكن في حالة تُعد مغايرة لسالفاتها، ونعني بذلك وثيقة التفاهمات المشتركة التي أعلن عنها كلٌّ من هيئة التنسيق الوطنية ومجلس (مسد) الممثل السياسي لقوات قسد، ولعل جهة المغايرة تكمن في التباعد الفكري والسياسي المعروف بين الجانبين، فهيئة التنسيق يقودها أحد قادة حزب الاتحاد الاشتراكي العربي، ذي التوجه القومي العربي التقليدي، في حين أن قسد تتبنى إيديولوجيا عبد الله أوجلان الأممية العابرة للقوميات، فضلاً عن أن هذا التباعد الإيديولوجي يضمر في ثناياه العديد من التباعد في السياسة، لعل أبرز ما في ذلك هو الإصرار المعهود لـ (مسد) على التمسك بفكرة لامركزية الدولة، وكذلك الارتباط العضوي لقسد بالحزب التركي الأم (حزب العمال الكردستاني pkk)، ولكن على الرغم من ذلك فقد سجّل الإعلان عن وثيقة التفاهمات مباغتة ربما حملت بعضاً من الانطباع الإيجابي في العديد من الأوساط التي ترى في مثل تلك التفاهمات تحوّلاً نوعياً في العلاقات بين القوى السورية، خاصة أن الوثيقة أفصحت عن رغبة الطرفين بأن يكون التفاهم الجديد تمهيداً أو نواة لجبهة وطنية ديمقراطية جديدة تضم مجمل أطياف المعارضة السورية وفقاً لما جاء في الوثيقة.
وما يجدر التنويه إليه، هو أن مكمن الإثارة في تفاهمات هيئة التنسيق وقسد لا يعود إلى ما انطوى عليه مضمون الوثيقة الذي جهد البعض في إعطائه أبعاداً فلسفية غير مسبوقة، وإنما يعود إلى لقاء أطراف ربما كانت متباعدة المشارب، إيديولوجياً وسياسياً، الأمر الذي دعا كثيرين في حينه إلى التساؤل عمّا ستؤول إليه سيرورة هذه الوثيقة. ويبدو أنه لم يطل انتظار المتسائلين، إذ كشفت إحدى قيادات مسد (إلهام أحمد) في مقابلة لها مع صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ الثاني عشر من تموز الجاري، عن عقبات عديدة تعترض استمرار التفاهمات بين الشريكين الجديدين، لعل أبرزها الاختلاف حول مفهوم (اللامركزية) وكذلك الخلاف حول كيفية انضمام قوات قسد العسكرية إلى الجيش السوري وفقاً للسيدة إلهام أحمد، فضلاً عن مسائل أخرى آثرت عدم الخوض في تفاصيلها.
إلّا أن امتعاض إلهام أحمد لم يكن محصوراً بالعقبات المعيقة لاستكمال الشراكة مع هيئة التنسيق فحسب، وإنما كان حيال أطراف أخرى أخفقت قوات سوريا الديمقراطية في إحراز تفاهمات ملموسة معها وفقاً لما جاء في المقابلة، ويأتي في طليعة تلك الأطراف نظام الأسد الذي ما يزال يرفض رفضاً مطلقاً منحَ قسد أي مطلب من شأنه أن يسبغ عليها بعض الشرعية، في حين أن محاولات قسد المتكررة في التفاوض مع سلطات دمشق كانت ترمي في المقام الأول إلى انتزاع اعتراف دستوري بالإدارة الذاتية، وبعيداً عن مشروعية مطلب قسد أو عدم مشروعيته، فإن المشكلة التي تشكو منها السيدة إلهام أحمد لا تبدو في نظام الأسد الذي لا يحتاج إلى مزيد من التعريف – على الأقل لدى السوريين – بل في تفكير قسد وإصرارها على أن يكون من هو أصل المأساة السورية سبباً أو حاملاً من حوامل حلّها، أو ربما اعتقدت قيادات قسد أن من أصر على ممارسة الإبادة بحق شعب كامل يمكن أن يتحوّل إلى أب عطوف أو حاكم منصف للأكراد السوريين.
المتجانسون – نسبياً – من السوريين، وهم مجمل القوى والأحزاب والمنظمات الوطنية التي تلتقي وتقيم الندوات والمؤتمرات في بلدان اللجوء وجزء من الداخل السوري، لم يتمكنوا من تحقيق منجز ناتج عن تجانس بياناتهم وأوراقهم
أمّا تذمّر إلهام أحمد من الائتلاف بسبب رفضه مجرّد اللقاء مع قسد، علماً أن الائتلاف لم يعد لديه ما يغري به أحداً، فإن ذلك يؤكّد أن مسعى قسد نحو لقاءات القوى السورية الأخرى، على الرغم من مساحات الاختلاف بل التباين، لهو أمر ذو صلة بمصلحة أمنية يوجبها التفكير الذي ربما تحوّل إلى هاجس حول مستقبل قوات قسد في ظل عدم الركون لبقاء المظلة الأميركية منتصبةً في شرق الفرات.
المتجانسون – نسبياً – من السوريين، وهم مجمل القوى والأحزاب والمنظمات الوطنية التي تلتقي وتقيم الندوات والمؤتمرات في بلدان اللجوء وجزء من الداخل السوري، لم يتمكنوا من تحقيق منجز ناتج عن تجانس بياناتهم وأوراقهم بسبب كوابح تطول مغامرة التفكير واستلهام الوعي الثوري الذي باتت إرهاصاته شديدة الوضوح على الرغم من خذلان حوامله السياسية، أما غير المتجانسين، (نظام الأسد – قسد – الائتلاف ومشتقاته) فهؤلاء أكثر تمكيناً من الطرف الأول، باعتبارهم أصحاب سلطات يمارسونها على الأرض، وهم حين يتحاورون فيما بينهم ويتفاوضون، فإنما من أجل الدفاع عن تلك – السلطات – المصالح – والتي لا تعني بالضرورة شموليتها للمصير السوري العام، ولنا أن نتخيّل لو أن سلطات دمشق منحت قسد اعترافاً بالإدارة الذاتية، وكذلك وافقت على تعديل الدستور أو حتى على كتابة دستور جديد وفقاً لمسار سوتشي، فهل سيغيّر ذلك من ماهية نظام الأسد بأعين الملايين ممن قُتلوا أو سُجنوا أو تشرّدوا؟
Sorry Comments are closed