حين نجد زميلاً في العمل، يشغل وقته ليلاً نهاراً بعمله وتجويده ونسجه ومتابعته، نتساءل: لماذا يفني هذا الشخص وقته كله في العمل ويتعامل مع تفاصيله بهذه الطريقة، كأنه “بيت أبيه”؟
إنه الشغف!
والشغف أبعد بكثير من الإدمان والاعتياد والحاجة والإخلاص والمهنية والالتزام والتقوى، إنه طاقة تدفعك للتجويد، ومحاولة ترك بصمتك الخاصة. والشغوفون هم الذين يحصدون ثمار شغفهم، وإن لم يكن يشغلهم الحصاد كثيراً إبان انشغافهم، وقد لا يحصدون، لكنهم يعوضون ذلك بالسعادة التي يحصلون عليها في أثناء الإنجاز!
لا نريد تعويم المصطلح وربطه بقوى غير مقبوض عليها، فهو يعني، من جملة ما يعني، أن يكون ما تنشغف به هو ما تميل إليه نفسك وتنغمس فيه، ويتحدث المهتمون عن نمط من الأشخاص لا ينفكون عن الانشغاف عن كل ما ترميهم به الظروف، لا يعرفون التعامل العادي مع ما يمرون به، أو لا يستطيعون العمل إلا وهم في حالة شغف، تسألهم في مرحلة البدايات عن تأخر المنجز فيقولون لك: انتظر حتى ندخل في نسيج ما نحب.
يحوّل المستبدون شغفهم إلى شغف سلبي يتمثل بالحرص على الكرسي وجمع النقود وممارسة السلطة
يقسِّم المهتمون بالتدريب الذاتي وتطوير المهارات الأشخاص إلى نوعين: أشخاص لديهم قابلية للشغف، وأشخاص ليس لديهم قابلية بالشغف. ويتابعون بالقول: إن الأشخاص الذين لديهم إمكانية ليكونوا سعداء في حياتهم، هم الشغوفون/ الشغوفات، لأن الملل لا يعرف طريقاً إلى قلوبهم، واليأس كذلك، ويستولدون الطاقة الإيجابية مما ينشغفون به، ويفسِّر المهتمون ذلك بأنه يشبه القوة المغناطيسية وهنا القوة الناتجة عن جاذبية الإنجاز والدخول في التفاصيل، والشعور بالفرح الناجم عن الإيمان بأنك صرت عاملاً مؤثراً بها ومولداً لها، وكلما أنجزوا جزءاً جديداً، ولد فيهم طاقة إيجابية متجددة كي يكون منجزهم لا نهاية له. وهذا يكشف أنه من المهم تخصيص الوقت اللازم لما ننشغفُ به، فالشغف متعة ومغامرة، وتجديد، ولعلّ هذا يفسر عدة حالات نجاح تمر معنا، سر نجاحها بالشغف الذي يعادله على مستوى الطبخ ما يدعي بـ “النَّفَس”.
يحوّل المستبدون شغفهم إلى شغف سلبي يتمثل بالحرص على الكرسي وجمع النقود وممارسة السلطة، لذلك لا يستطيع الشعب تفسير كيف أنهم لا يرون الجرائم التي ترتكب في عهدهم، أو يصمتون عنها، الأمر بسيط جداً وهو أنهم ينشغفون ليس بما هو جميل ودافئ وحميمي بل بما هو سلبي ومتوحش، وقد تحدث الكاتب محمد برو في كتابه ناج من المقصلة عن حالات وأمثلة كان يمارسها السجانون بحق المساجين تدخل في باب الشغف السلبي كجزء من منظومة التوحش الأسدية. حدثني وزير سوري سابق كان صديقاً، عن أن جمع الأموال وتبييضها كانت جزءاً من شغف عائلة الأسد وأخوالهم من بيت مخلوف، في حين ترك شغف ممارسة السلطة وفرض القوة وإكراه الناس، لصغار العصبة والعصابة الأسدية، ويحاول عدد من المهتمين بتحديد المصطلحات تسمية ذلك بـ “الهوس” لأنه يرتبط بحالات فيها أذى للآخرين.
أبرز حالات الشغف الملتبسة، التي تشغلني هي حالات شغف المدخنين بسيجاراتهم، إذ أكون سعيداً بمراقبتهم، ومتابعة كيفية تدخينهم وعلاقتهم الخاصة جداً بالسيجارة، قد نتساءل، حين نمرّ بجانب شخص يمسك سيجارته بيده ويدخنها بشغف شديد: كيف يفني هذا الشخص نقوده ووقته وصحته بسيجارة؟ إنه الشغف!
أحِبُّ الشغوفين من المدخنين، ويلهف قلبي لهم، لا أردُّ ضيافتهم، رغبة بمشاركتهم طقس السيجارة، منهم من لا تنطفئ سيجارته، ومنهم من يكون مفتاح العلاقة مع الطرف الآخر كونهما مدخنيْن معاً، يسألني صديق مدخن على سبيل الاستفهام الإيجابي: هل جربتَ أن تدخن سيجارة منتصف الليل، في شارع مظلم، على ضوء القمر، ورائحة الأمنيات، وأمواج البحر، مع امرأة تحبها؟ لم أجبه، قلت له: في ظني أن تلك تجربة لا تحكى، بل تُعاش، والكثير من تجارب الحياة يفنيها الحكي ويطفئ بهجتها.
حدثني، ذات دمشق، رجلٌ مسن يعمل نادلاً في مقهى الروضة بالصالحية في دمشق، عن صديق له، أصرَّ أن ينهي حياته وهو يمجُّ سيجارته، فطلب منه حين كان يمر بسكرات الموت طلباً غريباً، وهو أن يلفَّ له سيجارة، وقبل أن يأخذ النفَس الأخير من السيجارة، نطق الشهادة، وأسلم روحه. وتابع: سحبتُ ما تبقى من السيجارة من بين أصابعه، بصعوبة شديدة، فقد رصَّها بقوة بين أصبعيْه كأنها تشدّ أزره؛ فيما الروح تُقبَض، ربما يريدها أن تذهب معه إلى قبره، لتذكره بتلك الأيام الحلوة. وختم بالقول: دسستُ له عدداً من السجائر في كَفنه، تنفيذاً لوصيته، دون علم أقاربه، خشية أنْ يدخلوني في باب “يجوز ولا يجوز” وهو نفقٌ لا نهاية له.
علاقة كثيرين بسيجاراتهم ليست علاقة نيكوتين يسري في دمائهم فحسب، بل علاقة وجود وألفة وحميمية، وقد كتب غابرييل غارسيا ماركيز مقالة عنوانها “ذكريات مُدخّن متقاعد” قال فيها: “لم أترك التدخين لأي سبب معين، ولم أشعر مطلقا بأني أصبحت أحسن حالا أو أسوأ حالا، ولم يتعكر مزاجي، ولم يزد وزني، واستمرّ كلّ شيء كما لو أنني لم أدخن في حياتي قط، أو كما لو أنني ما زلتُ مُستمراً في التدخين”!
أما الشاعر والصحفي أمجد ناصر فكتب عن علاقته بالتدخين مقالاً بعنوان ذكريات مدخن سابق، قال فيه: “أعرف من أين أبدأ وكيف. لدي “خريطة طريق” كتابية واضحة، ولديّ من يقودني في متاهاتها الداخلية: السيجارة. من دون السيجارة، ذلك الضوء الساطع في ليل الكلمات، لا كتابة. بل لا طرف خيط “أردياني”، ابنة مينوس ملك كريت، الذي قاد حبيبها “ثيسيوس”، ابن ملك أثينا، داخل المتاهة العظيمة. “خيط أردياني” لا غنى عنه للتجول داخل المتاهة والخروج منها”.
من أبرز الأسئلة التي تقود إلى السعادة وفقاً للخبراء الإجابة عن السؤال التالي: ما هو شغفنا؟ ولماذا نحرم أنفسنا من شغفنا؟ وهل نخصص لشغفنا الوقت الكافي؟
ولا بدّ من إتباع تلك الأسئلة بسؤال أصعب: أيكون ابتعادنا عن شغفنا أحد عوامل حزننا وتعبنا، وربما يأسنا؟
هل تخفِّف معرفتنا بشغف من حولنا أسئلتنا واستغرابنا، أيمكننا أن ننبههم إلى شغفهم؛ حيث أخذتهم محطات الحياة بعيداً عنه؟
قد نساعدهم بذلك السؤال عن شغفهم في البحث عن إجابة ضرورية له. وقبل أن نقوم بذلك لا بدّ أن نساعد أنفسنا بتحديد شغفنا وطرق الوصول إليه، إذ تشير عدة تجارب إلى أن إهمالك لشغفك بـ “التطنيش” له عدة ارتدادات نفسية، لا يدركها الأطباء النفسيون الذين غالباً ما يفكرون داخل صناديق نظريات سنّها آخرون واسْتقوها من تجارب أخرى، لذلك لم تعد مفيدة لك، ولا تنطبق عليك.
الشغف هو عمر بن أبي ربيعة ومجنون ليلى بمن مالت قلوبهم إليه وتعلقت، والشغف هو عنترة والفروسية والمعارك، ومن الشغف المعاصر نزار قباني حين لا يتوقف عن الكتابة عن الجمال
المنشغلون بالتحليل السياسي يفرقون بين الثوار وهم يدخلون في باب الشغف بالثورة والحرية، ويذكرون أمثلة: عبد الباسط الساروت والهرموش ويوسف الجادر أبو الفرات ورياض الترك وجيفارا من جهة، ومن جهة أخرى، كمثال على المنفعية والوظيفية وعدم الشغف، معظم العاملين بالعمل المعارضاتي كالعاملين بمؤسسة الائتلاف، وهم موظفون يؤدون مهامهم مقابل أهداف محددة وربما أجر محدّد، بعد أن تنتهي المهمة يتابعون حياتهم دون أن يرف لهم جفن في افتتاح مطعم أو تربية النحل، أو استثمارات في التحويلات المادية.
في أحد تعريفات علم التصوف أنه شغفُ العابد بالمعبود حباً. ووفقاً لصديق متحمس للشعر العربي القديم يقول: الشغف هو عمر بن أبي ربيعة ومجنون ليلى بمن مالت قلوبهم إليه وتعلقت، والشغف هو عنترة والفروسية والمعارك، ومن الشغف المعاصر نزار قباني حين لا يتوقف عن الكتابة عن الجمال.
والشغف هو أحد درجات الحب، ويعني التعلق الشديد الذي يتمكن من سويداء القلب، وقد ورد الشغف في القرآن الكريم في وصف امرأة العزيز بقوله تعالى: “قد شغفها حُباً”. أي غلّف حبّه قلبَها، أي انشغلت به وأصبحت غافلة عما سواه.
حدثني صديق آخر، بثقة، عن أنه لا يعرف شيئاً اسمه الشغف، هو يكون سعيداً عند القيام بمهماته وعمله بإخلاص شديد. قلتُ له: الإخلاص والتفاني في العمل شيء ممتازٌ، لكن فاتك جمالٌ كثير من الحياة التي تعيشها، وتفاصيل لا تُدرك إلا بالشغف، نصيحتي لك لا تحب إلا “شغوفة” تستغرق عالمك وتجعله أجمل وأجمل.
عذراً التعليقات مغلقة