أما وقد انتهت العملية التي نفذها “داعش” في سجن الصناعة في مدينة الحسكة شمال شرق سوريا، وقتل من قتل، وفشل من فشل، وانكشفت مواقع الضعف والخاصرة الرخوة لمرحلة ما بعد “الخلافة”، فلا بد من استعادة مشهد الشمال الشرقي لسوريا بوصفه بطناً ولادة لاحتمالات كثيرة.
مهاجمو السجن لم يخرجوا من تحت الأرض، فهم شقوا طريقهم بين صدوع خلفتها التجربة التي أعقبت المعركة الأخيرة في الباغوز. مشهد الشمال الشرقي لسوريا مذهل لجهة ما ينطوي من احتمالات، والعالم اذ قرر أن يشيح بوجهه عن المشهد هناك، تعامى عن حقائق مذهلة يمكن أن تولد بفعل تعاميه. وهذه الحقائق هي ما ساعد مقاتلي التنظيم على مهاجمة سجن الصناعة، وهي ما سيساعده مستقبلاً على عمليات مماثلة.
أحد الأصدقاء أجرى مسحاً للسجون في تلك المنطقة، وسجل أن سجن الصناعة أو سجن الحسكة المركزي، يضم قرابة 3500 سجين من عناصر تنظيم “داعش”، وأكثر من 700 طفل مما يعرف “بأشبال الخلافة”، وهو ليس الوحيد بل هناك ما لا يقل عن عشرين سجناً آخر، مثل سجن عايد في الطبقة الذي يضم نحو ألف معتقل، وسجن الأحداث في الرقة ويضم نحو 1500، وسجن علايا في القامشلي الذي يضم نحو 1500، والسجن الأسود أو سجن ديريك، الذي يضم أخطر المطلوبين، ويقبع فيه نحو 2000 سجين، وسجن الشدادي الذي يضم نحو 600 سجين، وعدد من السجون المحلية الأخرى.
لكن ليست السجون وحدها مؤشر الانفجار المقبل هناك، فمخيمات اللاجئين متفشية على نحو مذهل، ويعيش الناس فيها أحلك الظروف على كل المستويات، والبؤس والعنف يبلغان ذروتهما في مخيم الهول الذي يعيش فيه نحو 40 ألفاً معظمهم من عائلات عناصر تنظيم “داعش”.
والهول أقرب إلى سجن منه إلى مخيم. محاصر وممنوع على سكانه مغادرته، لكنه أيضاً مدينة سجنية، تتوزع الأحياء فيه تبعاً لخطورة السكان، ومثلما ممنوع على سكانه المغادرة ممنوع على عناصر “قسد” الدخول إلى الكثير من أحيائه.
من الصعب توقع شكل الانفجار الذي يمكن أن يولده هذا المشهد المحتقن، فعملية سجن الصناعة تبقى على ضخامتها موضعية، وجرى تطويقها على رغم الأثمان الفادحة التي نتجت عنها، والمرء إذ يرتعد أثناء عرضه عناصر الاضطراب الواضحة عليه أن لا يشيح بوجهه، على نحو ما يفعل العالم، عن وقائع موازية. فخطوط الاحتقان العربي الكردي في تلك المنطقة مؤشر أيضاً، وانتشار عشائر تصدعت بناها وتعاني اليوم من تذررٍ ومن فقدان لناصية الزعامة ومصادر العيش سيساعد أيضاً من يريد الاستثمار بهذه المآسي أن يفعل.
وهنا علينا أن لا ننسى أن العشيرة بعد أن فقدت بنيتها، تحولت إلى طاقة تتنافس على توظيفها قوى العنف. من هذه المعادلة ولدت معظم الجماعات المتطرفة في سوريا والعراق، سواء كانت سنية أم شيعية. سبق لإيران أن سعت لتشييع انشقاقات عشائرية سنية، وسبق لصدام حسين خلال حملته الإيمانية أن حول عشائر شيعية إلى سنية.
هذا المشهد ليس سورياً، فالمسؤولية عن مصائب الشمال الشرقي السوري يتوزعها العالم بأجمعه. في السجون مقاتلون من 52 جنسية، ونحو ثلث سكان مخيم الهول من العراق، وتعيش فيه عائلات أوروبية وأفريقية ومن معظم دول المنطقة.
والحرب على “داعش” خاضها العالم بأسره، وليس عادلاً أن تترك تبعات هذه الحرب على السوريين لوحدهم. علماً أن هذا ما يفعله العالم اليوم. كل العالم. دول كثيرة ترفض استعادة مواطنيها من هناك، وتكتفي بمساعدة الإدارة الكردية على إدارة السجون والمخيمات، فيما دول الجوار تتنازع على مصالحها في هذه المنطقة غير آخذة بعين الاعتبار احتمالات استيقاظ المسخ وانقضاضه على كل شيء!
نعم، من المذهل أن هذه الوقائع ما زالت خارج السياسة، إذا ما كانت الأخيرة إدارة للمصالح وللمستقبل. اقتصار المعالجة على بعض المساعدات، وعلى تدريب القوات الكردية على إدارة السجون، يعني أن الجميع قرر إبقاء المشهد على ما هو عليه، وهذا لا يعني إلا انتظار الكارثة. أطفال عناصر التنظيم في طريقهم لكي يصيروا الجيل الجديد من مقاتليه، والسجون مصنع هائل للعنف، ومنها ولد التنظيم أصلاً، والعشائر، في تخبطها وانهيار بناها، لطالما لبت الدعوات للعنف وللانقضاض.
كل الشروط متوفرة لكي نشهد حدثاً مشابهاً لحدث سجن الصناعة، وربما أكبر منه. العالم لم يتعظ، والدول تراوغ نفسها وتدفن رأسها بالرمال.
عذراً التعليقات مغلقة