يعيش القطاع التعليمي في مناطق سيطرة المعارضة السورية أزمة حقيقية في ظل الإدارات العشوائية للقطاع الأكثر أهمية بالنسبة لملايين السوريين المحشورين في بقعة مكانية محدودة شمال غربي سوريا، والتي انعكست سلباً على مختلف مراحل التعليم بدءا من رياض الأطفال حتى مرحلة التعليم الجامعي، كما أسست الإدارة المشتتة للقطاع لحالة من الفوضى والصراع والفساد وغياب التنسيق والعمل المتكامل بين الإدارات والتي باتت تشبه “الكانتونات التعليمية” المستقلة بقراراتها وأهدافها ومناهجها وبرامجها في منطقة من المفترض أنها متداخلة جغرافياً وسياسياً.
وعلى الرغم من أن واقع القطاع التعليمي في مناطق المعارضة يعبر عن الحالة العامة للإدارة المدنية الموزعة على عدة قوى، فهو من أخطر القطاعات الحيوية ويؤثر الفشل والانقسام في إدارته على جيل كامل، وستكون أزمته في تصاعد إن لم تتخذ إجراءات جدية للحؤول دون مزيد من تدهوره مستقبلاً.
الواقع التعليمي
يتوزع القطاع التعليمي في مناطق المعارضة على ثلاث إدارات، وهي إدارة المجالس المحلية المدعومة من تركيا في منطقتي (درع الفرات وغصن الزيتون) في ريف حلب، وهي أشبه بالإدارات الذاتية المصغرة التي تدير مختلف القطاعات الخدمية بما فيها القطاع التعليمي، كذلك تدير وزارة التربية والتعليم في الحكومة السورية المؤقتة جزءا من القطاع التعليمي وبالأخص التعليم الثانوي والعالي، وفي إدلب تتولى “حكومة الإنقاذ” التابعة لهيئة “تحرير الشام” إدارة القطاع التعليمي كاملاً، ولكل إدارة شهاداتها ومناهجها الخاصة وطرائقها وخططها في الإشراف على مختلف المراحل التعليمية.
يغيب التنسيق والعمل المشترك بين المجالس المحلية في ريف حلب، والتي تنقسم أصلاً لثلاثة أقسام من ناحية الإشراف التركي على عملها ودعمها، فمنطقتا الباب وجرابلس شمال شرقي حلب تتبعان بالإشراف لولاية غازي عينتاب، أما اعزاز ومارع وصوران وأخترين والراعي فتتبع لولاية كلّس، ومنطقة عفرين ونواحيها الستة تتبع لولاية هاتاي، وقد نتج عن هذا النوع من الدعم والإشراف الإداري غير المنتظم والمنفصل فوارق جمة في مستوى الخدمات ونوعيتها بين منطقة وأخرى، وفارق كبير في عمل مديرات التربية بين منطقة وأخرى في ظل غياب التنسيق والعمل المشترك، وقد ظهر ذلك جلياً في امتحانات الشهادة الثانوية التي صدرت نتائجها قبيل عيد الأضحى بأيام قليلة.
يدار قطاع التعليم ما قبل الثانوي عن طريق مديريات التربية التابعة لكل مجلس محلي في ريف حلب، وبعض المجالس تشرف على عمل فروع الجامعات التركية الناشئة حديثاً في المنطقة، كالكليات والمعاهد التابعة لجامعة غازي عينتاب وغيرها من الجامعات التركية في الراعي والباب واعزاز وجرابلس وعفرين، وهذه الفروع الجامعية لا علاقة للمؤقتة بعملها، وإنما يرجع الإشراف للمجالس المحلية التي تتحكم بمختلف قطاعات العمل الخدمي في منطقة جغرافية محدودة، فعلى سبيل المثال إن حصلت على الشهادة الثانوية في مدينة الباب فإنها ستكون ممهورة بتوقيع وخاتم المجلس المحلي للمدينة كجهة عليا.
أما المؤقتة فتدير سنوياً امتحانات الشهادة الثانوية للطلاب الأحرار وتحوز أكثر من 20 بالمئة من عدد المتقدمين للشهادة الثانوية في المنطقة، ويتبع لوزارة التربية والتعليم في المؤقتة جامعة حلب في المناطق المحررة، وعدد من الجامعات الخاصة التي تتبع لها بشكل رمزي لتحصل على توقيع وزيرها على الشهادات الصادرة عنها لتعطيها شيئاً من الاعتراف الداخلي على الأقل. أما في إدلب فيدار قطاع التعليم عبر المجمعات التربوية التابعة لوزارة التربية والتعليم في حكومة الإنقاذ والتي تدير مختلف المراحل التعليمية ما قبل الثانوي، ويتبع لوزارة التعليم العالي أيضاَ جامعة إدلب وعدد من المعاهد والجامعات الخاصة، وجميعها تخضع لرؤية تحرير الشام ومخططها لمشروعها الإسلامي المفترض، وبطبيعة الحال يستفيد منها طيف واسع من المحسوبين على تحرير الشام، والتي بدورها تعمل عبر التعليم على تأسيس جيش من الموالين من حملة الشهادات العاملين في مؤسسات الإدارة المدنية.
أزمة نتائج الثانوية
صدرت نتائج امتحانات الشهادة الثانوية التي نظمتها المجالس المحلية في ريف حلب منتصف شهر تموز/يوليو الحالي، ولكنها كانت صادمة بالنسبة لكثير من الطلاب، التقى موقع “تلفزيون سوريا” عدداً من الطلاب في ريف حلب، بعضهم لم يتوقع رسوبه وآخرون حصلوا على درجات منخفضة، وفريق آخر من الطلاب يشعر بأنه ظلم في عمليات التصحيح الإلكتروني وبدا ذلك واضحا من خلال سلم العلامات المعلن والذي حوى على كثير من الأخطاء، فمثلاً بعض الطلاب حصل على علامة 106 من 100 في مادة التربية الإسلامية، وحصل معظم الطلاب على العلامة التامة في مادة الفلسفة لأن أسئلة الامتحان سلمت للطلاب متضمنة كامل الحل للأسئلة، وفي العموم كانت نسبة الناجحين منخفضة جداً لهذا العام.
في منطقتي الباب وعفرين كانت نتائج امتحانات الشهادة الثانوية مرضية إلى حد ما ونسبة الناجحين جيدة في المنطقتين، في حين كانت النسبة في اعزاز ومارع أقل، وشهدت المنطقتان احتجاجات للعشرات من الطلاب الراسبين والذين طالبوا بإعادة التصحيح وتقدموا باعتراضات على النتائج لدى مديريتي التربية في مارع واعزاز، وتجدر الإشارة إلى أن عمليات التصحيح الإلكتروني في المديريتين جرت بإشراف مسؤولي التربية التركية في كلّس، وأسئلة الامتحانات وضعت في تركيا أيضا.
وعَدَ المسؤولون في مديرتي التربية في مارع واعزاز الطلاب المحتجين بالنظر في الاعتراضات التي تقدموا بها، وبدت الوعود محاولة لامتصاص غضبهم، وفي الغالب لن يحدث تغيير كبير في النتائج، هذا على الأقل ما يتوقعه غالبية الطلاب الذين التقاهم موقع “تلفزيون سوريا” في مارع واعزاز. بعض الطلاب بدؤوا يفكرون من الآن في الإعادة، وكيف سيتدبرون أمرهم لتأمين المبلغ المطلوب لدفعه لدورات التقوية.
قال مصدر مسؤول في وزارة التربية والتعليم التابعة للمؤقتة (مفضلا عدم الكشف عن هويته) لموقع “تلفزيون سوريا” إن “المجالس المحلية تهيمن على العملية التعليمية في المناطق التي تديرها ولا دخل للوزارة في الفشل الحاصل” وأضاف المصدر “مسؤولو المجالس المحلية والمشرفون الأتراك لا ينقلون الواقع الحقيقي للقطاع التعليمي في المنطقة للجهات الإدارية الداعمة في تركيا، وسبق أن اقترحت الوزارة المشاركة في وضع المنهاج وإدارة وتنظيم الامتحانات ولم تلق تجاوباً، فمسؤولو المجالس لا يريدون تقاسم إداراتهم مع أحد”.
قادة وعناصر يتسابقون للحصول على الثانوية
اتهم الطلاب المحتجون على نتائج امتحانات الثانوية في ريف حلب قادة وعناصر “الجيش الوطني” والمقربين منهم ومن المجالس المحلية بأخذ فرصتهم بالنجاح، بعد أن تقدم عدد كبير منهم لامتحانات الثانوية العامة التي تديرها المجالس في ريف حلب للعام الدراسي الحالي 2020/2021. يتداول الطلاب الذين التقاهم موقع “تلفزيون سوريا” نكتة ساخرة تقول إنهم “سألوا طالباً في الثانوية الفرع الأدبي حصل على علامة 100 في المئة بمادة الفلسفة، من هو جان جاك روسو، فرد الطالب مع أي فصيل يعمل روسو”، يبدو أن الطالب المفترض أنه عنصر وربما قائد في واحدة من الفصائل لم يكن بحاجة للمذاكرة لكي ينجح ويحصل على معدل درجات كبير.
يقول الطلاب المحتجون إن عدداً كبيراً من قادة وعناصر الفصائل والمؤسسات الأمنية والأعضاء في المجالس المحلية تقدموا لامتحانات الثانوية التي تديرها المجالس هذا العام، ومعظمهم ظهرت نتيجته “ناجح”، بعضهم لا يعرف ماذا يوجد في منهاج الثانوي، وكان اعتماد هؤلاء بحسب الطلاب على عمليات “الغش” التي عمت مراكز الامتحانات التي كانوا يقدّمون فيها. يقول أحد الطلاب إن “عنصراً في فصيل عسكري حصل على معدل درجات كبير لا يحلم بتحقيقه طالب تعب ودرس طوال العام، علماً أن هذا العنصر لا يعرف من المواد إلا اسمها”.
يبدو أن جزءا من المعلومات والاتهامات التي يتداولها الطلاب المحتجون صحيح، فكثير من قادة وعناصر الفصائل والمؤسسات الأمنية قد حصلوا على الشهادة الثانوية، ويحاول معظمهم الحصول على رتبة عسكرية خلال الفترة المقبلة والتي ستشهد تحركاً تنظيمياً جديداً لفصائل “الجيش الوطني” المدعومة من تركيا، ويلزم القادة والراغبين بالبقاء في مناصبهم أن يحملوا شهادة تعليم ثانوي على الأقل للحصول على رتبة، أما بعض العناصر المتقدمين للثانوية فهدفهم كما يبدو هو إكمال التعليم الجامعي ومن ثم الحصول على فرصة عمل جيدة وترك العمل المسلح بسبب انقطاع وتأخر الرواتب المتكرر، وعدم كفاية الراتب الشهري، أما بعض كبار السن الذين شوهدوا يتقدمون لامتحانات الثانوية فيريدون الحصول على وظيفة أو عضوية في أحد مكاتب المجالس المحلية والتي يتم توزيعها، أي المناصب ومقاعد العضوية على أساس التمثيل العائلي، وكان وجود الشهادة الثانوية عائقاً كبيراً أمام كثير من هؤلاء، وقد حال عدم وجودها دون تسلمهم للمناصب التي يطمحون إليها، وقد أتت الفرصة لنيلها بطريقة سهلة، فلم لا؟.
توجهُ العسكريين للتعليم في ريف حلب يقابله توجه مماثل في إدلب الخاضعة لسيطرة تحرير الشام، الكثير من عناصرها وقادتها والمقربين منهم في المؤسسات الأمنية والمدنية حصلوا على شهادات التعليم الثانوي وتوزع بعضهم على الكليات الجامعية ليدرسوا فيها تخصصات مختلفة، لا يقتصر الأمر على العناصر المحليين فقط، بل المهاجرين أيضاَ اتجهوا نحو التعليم المحلي، وهو جزء من سياسة التوطين التي تتبعها تحرير الشام مع بعض المجموعات المهاجرة غير المصنفة وغير المعروفة، كما أن التوجه المفترض يمثل خطوة عملية مهمة في تحول القطاع العسكري التابع لتحرير الشام من قطاع حركي تقليدي إلى قطاع منظم على شكل جيش ووزارة دفاع، وقد أعلنت الخطوات الأولى في هذا الاتجاه والتي تتمثل في الإعلان عن إنشاء إدارة التجنيد العسكري والكلية الحربية، ولهذا يلزم عناصر وقادة تحرير الشام شهادات جامعية وثانوية على الأقل ليحصلوا على رتب عسكرية ويتولوا مناصب مهمة في الإدارتين المدنية والعسكرية.
أزمة التعليم العالي
يلتحق بجامعات المعارضة سنوياً مئات وربما آلاف الطلاب الحاصلين على الشهادة الثانوية ومن الجهات الثلاثة التي تتقاسم إدارة قطاع التعليم، ولأن معظم الجامعات تعتمد في عملها على مبدأ الربحية فإنها تتسابق لاستقبال أكبر عدد ممكن من الطلاب في كلياتها وأقسامها لتحصيل كم أكبر من الرسوم “الأقساط” السنوية من الطلاب، وذلك لتغطية المصاريف التشغيلية ودفع رواتب المحاضرين والأساتذة والتوسع في منشآت وكليات الجامعة، وفي كل عام تتجدد مشكلة انضمام أعداد كبيرة من الطلاب “الجهَلة” إلى صفوف التعليم الجامعي، بعضهم بدأ للتوّ بتعلّم الإملاء، وآخرون لا يعرفون موقع سوريا على الخريطة.
Sorry Comments are closed