تم نشر هذه المادة لصالح حملة “كانوا هنا” من ضمن مشروع “صوت العدالة”
يعاني الأطفال أنواعا مختلفة من العنف النفسي والاجتماعي والاقتصادي إثر اختفاء أمهاتهم، وبغيابهن تعاني العائلة آثاراً سلبية جمّة كون الأمهات ركن أساسي في بناء الأسر والمجتمعات.
“غياب والدتي تسبب بإعاقة دائمة لأخي الصغير” بهذه العبارة بدأت رؤى حديثها حول اختفاء والدتها القسري من ريف حمص الشمالي، إثر انشقاق والدها عن صفوف قوات النظام السوري واضطرار والدتها للعمل خارج المنزل بعد توقف مصدر رزقهم.
تقول رؤى: ” بتاريخ 29 حزيران 2014 وعلى الطريق الواصل بين مدينة الرستن شمالي حمص وحمص المدينة اختفت والدتي ولم نعرف الجهة التي اقتادتها، وبعد مرور ثلاث سنوات على اختفائها أخبرنا أحدهم أنها في سجون النظام السوري وما كان علينا سوى اللجوء إلى محام للبحث عنها ومتابعة أمرها إلا أن جميع محاولاتنا باءت بالفشل ولم نعثر عليها حتى اليوم”.
اختفاء الأمهات يعرّض العائلة لوصم مجتمعي وعنف مضاعف
تعرضت رؤى بعد اختفاء والدتها لعنف مضاعف من أقرب الناس اليها وهو زوجها الذي تغيرت معاملته معها وبات ينسبها بابنة المخطوفة أحيانا ويرميها بالشتائم أحيانا أخرى، حتى انتهى الأمر بطلاقها بعد فترة قصيرة من زواجها وهي ذات السبعة عشر عاما، وعادت إلى منزل عائلتها لترعى أخوتها الصغار.
الوصمة المجتمعية التي لحقت بعائلة رؤى وأخواتها الأصغر بسبب غياب والدتهن من جهة وطلاق رؤى من جهة أخرى جعلتهن يواجهن النظرات السلبية إليهن من قبل أفراد المجتمع المحيطين بهن، فلطالما وصفن ببنات المعتقلة أو تم توجيه الشتائم لهن، ولم يقتصر الأمر على هذا بل تجاوزه لتطال الوصمة من والدهن أحياناً، حيث كان الرجال يتهامسون حول اختطاف زوجته ووضع أولاده أثناء عبوره في الطرقات ما جعله يفكر بتزويج بناته لأول متقدم وبالفعل زوج الابنة الصغرى وعمرها ثلاثة عشر عاما من رجل يعاني من إعاقة عقلية حتى يتخلص من كلام الناس دون أن يدري أنه “زاد الطين بلة” كما يقال.
آثار نفسية يتخللها إعاقات جسدية ترافق ذوي المختفين طيلة حياتهم
بيدين مرتجفتين تمسح رؤى دموعا ذرفتها مرارا على وجنتيها الورديتين مرددة عبارة ” فوق الموت عصّة القبر”، أتبعتها بجملة من التنهدات الحزينة وبقولها ” الأم تلم شمل العائلة “أما أنا فمهما حاولت أن أكون أما عطوفا وصاحبة مسؤولية ورعاية وأصلح ما أفسده الدهر فلن أحظى بجزء مما قدمته والدتي لنا”.
تحدثت رؤى عن صوت بكاء أخيها الصغير في ليال الفقد الطويلة الذي مازال عالقاً في ذاكرتها يأبى أن يفارقها، وعن عبارات الإلحاح من الطفل ورغبته بالرضاعة لأنه لم يفطم بعد، وصراخه على الدوام “ماما بدي ماما” وما تبعه من أثر على بقية الأخوة التي تكبرهم رؤى سناً، ما جعلها في حيرة من أمرها في تلبية احتياجات أخيها الصغير من مأكل وحنان وغير ذلك فلطالما اتخذت من حضنها بديلا عن صدر والدته، إلا أن عدم خبرتها بتربية الأطفال بسبب صغر سنها، جعل الحمى تنال من جسد أخيها الصغير دون أن تشعر مما تسبب له بأذية في الجهاز العصبي وفقدانه القدرة على الحركة أو التركيز والفهم وقيامه بأفعال غير طبيعية مع مرور الوقت.
غياب الأمهات يولد عنفاً أسرياً واقتصادياً للأطفال ويزيد عمالهم
عانى الوالد خلال مدة اختفاء الأم من ضغوطات مادية ونفسية لم تكن أقل حدة مما عاشه بقية أفراد العائلة، جعلت منه رجلاً مزاجياً وعدائياً أحيانا يتمنى الموت لنفسه وأولاده على الدوام إثر فقد زوجته، بعد أن كان مثال للأب القدوة كما تقول رؤى.
حالة العصبية والانطواء وعدم القيام بأي عمل يؤمن أدنى احتياجات المنزل كانت الأكثر شيوعا لدى الوالد، بل وتتفاقم في كثير من اللحظات لتتحول لعنف واضح من ضرب مبرح لجميع أفراد العائلة من أصغرهم لأكبرهم مهما كان الأمر بسيطا، وحرمانهم من الذهاب للمدرسة وإجبار ولده أحمد ذو العشرة أعوام على العمل بجمع قطع البلاستيك من القمامة بعد أن كان من المتفوقين في صفوفه الأربعة التي اجتازها قبل غياب والدته.
تقول رؤى في وضع أخيها أحمد “رغم صغر سنه إلا أن عطفه وحنانه علينا كان كبيرا وقد وعدنا ذات مرة أن يشتري لنا قطع “المعروك” بجزء من المبلغ الذي سيحصل عليه بعد بيع قطع البلاستيك دون أن يدري والدي بالأمر، لكن إضاعة المبلغ أثناء عودته الى المنزل منعه من ذلك بل كان الخوف من والدي يتملكه وحين عرف والدي بالأمر حصل مالم نتمناه فقد ضربه والدي بشكل جنوني وجعله ينزف دماً، وصراخنا واستغاثتنا بالجيران ملأت المكان ما أدى في النهاية إلى هروب أحمد” من المنزل.
غياب الأم عن العائلة يسبب تشتت العائلة في أغلب الأحيان لأن الأمهات ركن أساسي في بناء الأسر والمجتمعات وبغيابهن ستعيش العائلة أثر الفقد بشكله الأكبر.
وعن حال أحمد تقول رؤى: لم يعد أحمد قادراً على تحمل عنف والدي وقسوة الحياة، ليخلق ألم جديد يُضاف إلى جراح العائلة بمغادرة أحمد مُكرها، ليجتمع أثر نفسي آخر مع العديد من الآثار التي خلفها اختفاء والدتهم من حزن وألم للعائلة وجلد للذات من قبل الوالد مرة وبكائه لما وصل بهم الحال مرات عدة، ما تسبب له بأمراض كثيرة منها الضغط وأمراض القلب والنوبات القلبية التي أصابته أكثر من مرة.
وفي هذا الصدد توجه “رؤى” رسالة للعالم في نهاية حديثها بعد مضي سبع سنوات على اختفاء أمها مفادها ضرورة الكشف عن مصير والدتها من جهة والوقوف بجانبهم بعد تهجيرهم إلى مخيمات الشمال السوري في إدلب من جهة أخرى، في ظل عجزها عن رعاية أخيها الصغير الذي بات من ذوي الاحتياجات الخاصة.
مئات الآلاف من المدنيين غيبوا قسرياً خلال الحرب في سوريا، ما تسبب لذويهم بمعاناة مستمرة باستمرار غيابهم وعدم معرفة مصيرهم، وقد وثقت الشبكة السورية لحقوق الانسان في تقريرها العاشر حول الاختفاء القسري في سوريا هذا العام اختفاء ما لا يقل عن 102287 شخصاً منذ آذار 2011 حتى آب 2021 غالبيتهم العظمى لدى النظام السوري الذي يخفيهم بهدف تحطيمهم وترهيب الشعب بأكمله.
عذراً التعليقات مغلقة