أعلنت حكومة النظام السوري أن موعد إجراء الانتخابات الرئاسية هو 26 أيار/ مايو المقبل، وفتحت باب الترشّح لمنصب رئيس الجمهورية، وفق الدستور الحالي الذي لا تعترف به المعارضة السورية، وفي هذا الإعلان رفضٌ من النظام لربط الانتخابات بجدول عمل اللجنة الدستورية، وفق ما تنص عليه القرارات الدولية الخاصة بسورية، سواء جنيف أم القرار 2254 لعام 2015، وفيه أيضًا تحدٍّ للمجتمع الدولي الذي أعلن أنه لن يعترف بهذه الانتخابات، ما لم تكن ضمن حزمة متكاملة للحل السياسي وتأتي بعد دستور سوري جديد، وهو الأمر الذي يضع له القرار 2254 جدولًا تراتبيًا، يبدأ بكتابة دستور، تليه انتخابات رئاسية مراقبة دوليًا.
إصرار النظام السوري على إجراء الانتخابات، بالرغم مما قيل عن رغبة روسية في تأجيلها، وبالرغم من أن هناك مواقف أميركية وأوروبية رافضة لها، جملةً وتفصيلًا، هو مؤشر على تجاهل النظام السوري لواقع سورية التي ما زالت تعيش تبعات حرب قاسية مستمرة منذ أكثر من عقد، دمّرت بناها التحتية ومجتمعها، وخلّفت مآسي لا تُحصى ولا توصف، وهي أيضًا استهزاء بواقع السوريين الذين يعيش نحو نصفهم -وفق تقديرات المنظمات الدولية- في دول اللجوء خارج سورية، وفي مناطق النزوح داخل سورية، فارّين من بطش النظام وحربه، ولا يمكن لهم -بأي شكل- المشاركة في هذه الانتخابات، وفيها كذلك تجاهلٌ فجّ من النظام، لأكثر من نصف مساحة سورية التي هي خارج سيطرته وتحوي قوى أجنبية تتبع على الأقل لأربع دول، ولا تخضع لنفوذه، كما في شمال شرق سورية، حيث تهيمن القوى الكردية على المنطقة؛ وفي شمال غربها، حيث تُهيمن قوى المعارضة المسلحة و”الجيش الوطني” عليها؛ وفي جنوب سورية، حيث بيئة رافضة للنظام تضمّ بقايا “الجيش الحر”.
وكذلك نجد أنّ إصرار النظام السوري على إجراء الانتخابات هو رسالة واضحة، بأنه لا يكترث البتة بالمعارضة السورية، التي ترفض بمجملها الانتخابات بهذه الصيغة، وترفض المشاركة فيها بأي شكل وأي مستوى، ولا يعير لها هذا النظام أي قيمة، وإن أي حديث عن التفاوض بينه وبينها، في هذه الظروف وهذه الشروط، هو ضرب من ضروب التراجيديا العبثية التي ليس لها أي معنى.
ومنذ تأسيس اللجنة الدستورية، معروف أن النظام السوري لا يريد تمريرها، فهي بالنسبة إليه ليست سوى ميدان للمماطلة وتخدير المجتمع الدولي، وساحة لإغراق الجميع بالتفاصيل، وهو مستمر منذ عام ونصف، تاريخ تشكيلها، في تعطيل عملها وتسخيف مساراتها وشلّ قدراتها، ولم يسمح لها بعد عام ونصف من تشكيلها بسطر كلمة واحدة من الدستور السوري المرتقب، لأنه يُدرك يقينًا أن وضع دستور عصري جديد لسورية، يستند إلى الديمقراطية والتعددية والتداولية، يعني تلقائيًا زوال هذا النظام وتفككه وانهيار أسسه وركائزه، وإن النظام، بقراره إجراء الانتخابات، يصيب مقتلة في صدر اللجنة الدستورية، ويؤكد أن مشاركته فيها هي مشاركة شكلية تجميلية، تمثيلية مسرحية لا أكثر، ويجب على المعارضة السورية الانتباه لها، ووقف المشاركة بمهزلتها، ما دام النظام السوري لا يراها ولا يعير لها أي وزن أو قيمة.
أما موسكو، التي قيل إنها تمنّـت على النظام السوري أن يؤجل الانتخابات، وحاولت إقناعه بضرورة تأجيلها، وأفهمته أن وباء كورونا شمّاعة يمكن له أن يُعلّق التأجيل عليها، فقد عادت وتجاوبت معه، وغضّت الطرف عن رفضه تأجيل الانتخابات، وسرّبت أن الأمر “شأن سيادي” تقرره القيادة السورية، ولن تتدخل فيه، وهذا الموقف غير مستغرب، فهي أساسًا تدعم النظام السوري دعمًا غير محدود، وتفصل بين عمل اللجنة الدستورية وبين الانتخابات الرئاسية السورية، وترغب ضمنًا في إجراء الانتخابات وفوز الأسد فيها، بالتزوير أو “بالهيلمة” أو بأي طريقة كانت، المهمّ عندها أن يفوز، وتأمل أن يحصل النظام بذلك على شرعية دولية مفقودة، ما يقود إلى إمكانية الحديث عن مرحلة إعادة الإعمار، وهي المرحلة التي تنتظرها موسكو بفارغ الصبر.
شمّاعة كورونا أطلقها رياض حداد، سفير النظام السوري في موسكو، قبل مدة، في مقابلة مع وكالة “تاس” الروسية، حيث ربط تأكيد موعدها بظروف انتشار فيروس كورونا، وقال: “ما يزال الوضع الوبائي المرتبط بانتشار فيروس كورونا هو العامل الرئيسي المحدد في العملية الانتخابية المقبلة”، واعتبر كثيرون أن هذه المعلومة/ التسريبة، هي تسريبة روسية احتياطية، لإيجاد شماعة، إذا قرر النظام تأجيل الانتخابات، لكنه لم يفعل.
روسيا التي تتمسك بالأسد لفترة رئاسية جديدة ستضمن، عبر انتخابه من جديد للمرة الرابعة، سبع سنوات من استقرار مصالحها ووجودها وثبات تدخلها في الشأن السوري، وقد حاولت سابقًا استجرار تأييد عربي للانتخابات السورية ونجاح الأسد فيها، عبر زيارات قام بها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى دول خليجية، الشهر الماضي، التقى خلالها مسؤولين في تلك البلاد، لكنّه لم يستطع سحب اعتراف منهم بهذه الانتخابات ولا بشرعية الأسد، كما لم يستطع إقناعهم بتبنّي فكرة عودة سورية إلى الحاضنة العربية من خلال الجامعة العربية، وخلال جولته، ربطت كل من الدوحة والرياض هذا الطرح بإنجاز التسوية السياسية الحقيقية في سورية، وفق القرارات الدولية، ولن يكون هناك مشاركة في إعادة الإعمار من أي منهما، دون إنجاز الحل السياسي كاملًا.
بالمقابل، فإن الولايات المتحدة تُفشل كلّ الحلم الروسي، فقد أعلنت صراحة من دون مواربة ولا تأويل، رفضها رسميًا للانتخابات السورية ونتائجها، وكل ما يمكن أن ينتج عنها، إن جرت في موعدها وفي الظرف الراهن ودون مراقبة أممية، والموقف نفسه أطلقته الدول الأوروبية الغربية، التي أعلن مسؤولون فيها أن لا شرعية لتلك الانتخابات، وعدم اعترافهم بنتائجها.
يتطابق الموقف الأوروبي مع الموقف الأميركي، ويزيد عليه قليلًا، فقد صدرت تصريحات صارمة من مسؤولين أوروبيين، لا سيّما في فرنسا وألمانيا ورئاسة الاتحاد الأوروبي، ترفض الانتخابات السورية ونتائجها المستقبلية، وتؤكد أن أوروبا لن تعترف بها إلا بعد التوصل إلى حل سياسي شامل في سورية، يكون مصدره القرار 2254.
وبالعودة إلى الانتخابات بذاتها، نجد أن المعركة الانتخابية محسومة النتائج مسبقًا، مع غياب المعارضة عنها، وغياب أي رقابة دولية أو أممية، وغياب الشفافية والنزاهة، ومع سيطرة مطلقة لأجهزة الأمن على المناطق الموالية للنظام، وعلى مؤسسات الدولة ووزاراتها، وخوف السوريين ورعبهم من يوم الانتخاب، واعتياد أجهزة الأمن والاستخبارات على دفع موظفي الدولة والجيش إلى انتخاب الأسد، تحت تهديد التقييم السلبي لهم. وبذلك يكون فوز الأسد مضمونًا، بل يمكن وضع نسبة عالية سلفًا لناخبيه، ويمكن الجزم أنه سيحصل على ما يقارب 87 بالمئة من الأصوات، كحال انتخابات عام 2014 التي حصل فيها على أكثر من 87 بالمئة من أصوات الناخبين، على الرغم من أن نصفهم على الأقل كان هاربًا خارج سورية وفي دول اللجوء ومناطق النزوح التي لم تجر فيها انتخابات.
لا يهتم النظام السوري بشكليات الانتخابات، ولا تعنيه موافقة المجتمع الدولي، كما لا تعنيه أن يُنتقد لممارسته التزوير والتدجيل والكذب، وبالتأكيد سيُصدر قوائم مزورة، وإحصائيات غير واقعية عن المشاركين بالعملية الانتخابية، وسيحتفي بالنهاية بفوز الأسد، وسيحاول الترويج دوليًا بأن الانتخابات التي جرت هي “عرس وطني”، وهي تأكيد على “شرعية الأسد” وأن “سورية بخير”، وأنه آن أوان الاعتراف بالأسد كمنتصر في الحرب، وملك على سورية، ويجب البدء بإعادة الإعمار بإشرافه و”قيادته الحكيمة”.
أهمّ ما في موضوع إجراء الانتخابات هو أن الأسد يريد استغلالها لاستعادة شرعيته المفقودة، كرئيس مُنتخب من السوريين بعد الحرب، شرعية يحلم بها منذ سنوات ولا يحصل عليها نتيجة الدموية والعنف المطلق الذي مارسه خلال عشر سنوت.. شرعية صعبة المنال، لأن نصف السوريين مهجّرون ونازحون ومشردون، وملايين منهم فقدوا بيوتهم وأعمالهم، وفقدوا أحبتهم وأهلهم وأسرهم، كما فقدوا حاضرهم وماضيهم ومستقبلهم، شرعية صعبة المنال، لأنّ المجتمع الدولي لن يعترف بقاتل وبرئيس يستخدم الأفران البشرية والسلاح الكيمياوي للحفاظ على كرسيه، ولأن الجميع لن يعترف برئيس يدعم الإرهاب الإقليمي والدولي، ويتحالف مع الدول الفاشلة ويدعم الميليشيات الطائفية وينشر الكراهية والحقد والتمييز حيثما تحرك.
السبيل الوحيد لحصول انتخابات شرعية في سورية هو أن تحصل نتيجة عملية سياسية متكاملة، تتوافق مع شروط ونصوص قرار مجلس الأمن 2254 لعام 2015، وتجري بعد وضع دستور جديد حضاري ديمقراطي لسورية، والمرور بمرحلة انتقالية حيادية، لا وجود فيها للأسد، ولا نفوذ فيها لأجهزته الأمنية ولا لشبيحته وقتلته، وأن تكون مراقبة دوليًا، حرة ونزيهة وحيادية.
ميدانيًا، يسيطر النظام السوري على مناطق يقطن فيها نحو 9 ملايين سوري، من أصل 24 مليونًا، وهم يشكلون أقل من 40 بالمئة من السوريين، فضلًا عن أن التسعة ملايين الموجودين داخل مناطق سيطرته ليسوا جميعهم ناخبين لصالح الأسد، فكثير من أبناء طائفته ومؤيديه فقدوا أهاليهم ومعيليهم، مقابل لا شيء سوى حماية كرسي الأسد وحماية مصالح وأموال ونفوذ أسرته، وهناك قسم من الطائفة ليسوا معه أساسًا منذ بداية الثورة، وهم صامتون لضرورة أمانهم الشخصي. وفي أحسن الأحوال، لن يُشارك في هذه الانتخابات أكثر من 20 بالمئة من الناخبين، ولو صوّتوا جميعًا عن بكرة أبيهم للأسد، وإن النتيجة لا يمكن أن تمنح شرعية له، ولا يمكن أن تدفع إلى الاعتراف به كرئيس لسورية، وبالتالي، فإن اللا شرعية ستبقى صفة مُلازمة للنظام السوري، ولعنة تلاحقه مهما فعل.
الأسد، الذي قتل السوريين بالسلاح الكيمياوي من دون أن يرفّ له جفن، وحرقهم بأفرانه البشرية، وسلخ جلودهم في معتقلاته وسجونه، وذبحهم في المشافي وفي دور العبادة، وقصف بيوتهم بالبراميل والصواريخ، لن يقبل بأي انتخابات نزيهة، ولن يقبل بمراقبة، لا محلية ولا عربية ولا دولية ولا أممية، ولن يقبل بتأجيل الانتخابات لما بعد كتابة دستور جديد، ولن يرضخ للقرارات الأممية، لأنه يدرك أن سقوطه سيترافق مع تجاوبه في أي من القضايا السابقة.
مضيّ النظام السوري في الانتخابات يعني رفضه الضغوط الدولية، ورفضه الاعتراف بالشروط الدولية لإجراء الانتخابات في سورية، ورفضه قرارات جنيف والقرار 2254، وكل القرارات الأممية السابقة له، كما يعني أنه أسقط اللجنة الدستورية من حساباته، وكشف أنه لا يريد لا دستورًا جديدًا ولا تعديلًا بالدستور، وأنه يسعى إلى ترسيخ فكرة “الأسد إلى الأبد”، وأنه سيعرقل أي حل سياسي محتمل في المستقبل، ومستعد لخلق مزيد من المشكلات مع الغرب ومع المجتمع الدولي، ولا يُمانع بأن يضع حلفاءَه الروس في موقف محرج، وأنه قرر المضي في غيّه، ولو لم يجد من يُلقي عليه السلام في المستقبل، ليكرّس نفسه نظامًا أمنيًا قاتلًا مارقًا فاشلًا، حاكمًا لدولة فاشلة.
عذراً التعليقات مغلقة