منيرة بالوش – حرية برس:
(تم إنتاج هذه المادة ونشرها بالتعاون مع حملة #لنحقق_العدالة)
يلاعب جلال طفله الوحيد علاء ذو الخمس سنوات، مقلدا له أصوات الحيوانات التي يحبها، فهو حريص على إسعاده بشتى الطرق، لم يرزق الشاب الثلاثيني بطفل آخر بعد خروجه من المعتقل في 2016 نتيجة تعرضه للضرب المبرح الذي أفقده القدرة على الإنجاب.
اعتقل (جلال عمر) وهو اسم مستعار لمحدثنا، من مدينته المعضمية في ريف دمشق من قبل حاجز طيار للمخابرات الجوية، وأُخذ مغمَض العينين، مقيد اليدين إلى مفرزة الفرع في قطنا ثم إلى فرع المدينة 222 حيث تلقى عدة لكمات على وجهه لحظة اعتقاله وتم مصادرة جواله وكسر هويته فوراً.
في غرفة التحقيق تعرض للتعذيب بعد توجيه عدة اتهامات إليه، كدعم المسلحين وتمويلهم والتحريض على المظاهرات، وحمل السلاح، فكان الشبح على آلة تدعى “البلنكو” إحدى أشهر أساليب التعذيب المتبعة داخل الأفرع الأمنية، والضرب بالأنبوب الأخضر البلاستيكي أو ما يعرف باسم “الأخضر الإبراهيمي” ناهيك عن الصعق بالكهرباء وسكب المياه الباردة على جسده العاري.
وتصاحب هذه السلسلة من التعذيب إهانات لفظية وشتائم بذيئة ذات طابع جنسي بهدف الإذلال وتحطيم نفسية المعتقل.
يعتبر العنف الجنسي في المعتقلات إحدى وسائل التعذيب الذي يمارسه النظام السوري بحق المعتقلين والمعتقلات، هذا ما أكدته منظمات حقوقية دولية في عدة تقارير سابقة، حيث يتعرض المعتقل للتعرية القسرية أثناء التحقيق والضرب على الأعضاء التناسلية بشكل مباشر وحرقها بأعقاب السجائر لإذلال الضحية وتحطيم نفسيته.
لا ينسى جلال ذلك المشهد عندما شُبِحَ وهو عارٍ ثم انهالوا ضرباً على أعضائه التناسلية حتى فقد الإحساس بكامل جسده، فقد على إثر ذلك القدرة على الإنجاب، وممارسة حياته الزوجية بشكل طبيعي كأي شخص سليم، فالتعذيب الذي لقيه سبب له إعاقة جنسية دائمة بالإضافة إلى صدمة نفسية قوية لم يتمكن حتى الآن من التعافي منها.
عرض جلال نفسه على عدة أطباء بعد خروجه من المعتقل إلا أن الجميع أكدوا عجزه جنسياً وعدم قدرته على الإنجاب مرة أخرى، أما بالنسبة لحالته النفسية وعزلته عن الناس فيؤكد (محمد خالد) وهو عامل دعم نفسي اجتماعي، أن التعرض للتعذيب خلال فترة الاعتقال تنعكس نفسياً واجتماعياً وأسرياً على الناجي تصاحبها أمراض نفسية سلوكية من بينها القلق الدائم والاكتئاب والعزلة الاجتماعية.
تعتبر هذه التفاصيل قاتلة بالنسبة إلى الضحية، وكذلك البوح بها لا يعدوا وسيلة تعذيب أخرى، يتحايل عليها جلال بالنسيان أو التجاهل.
بعد خروجه من السجن دخل بحالة نفسية صعبة جعلته ينعزل عن العالم أكثر ويعيش حالة من القلق بشأن مستقبله ويستذكر عجزه وهو في ريعان شبابه، فيخشى أن يفقد زوجته وابنه الوحيد الذي لن يرزق بأخ له فهما الحافز الوحيد لمتابعة الحياة وتغلبه على حالته النفسية وبحثه عن العلاج الذي يمكنه من الاندماج بالمجتمع مرة أخرى.
لم يعانِ المعتقل جلال من الوصمة وكلام الناس باعتباره رجلاً كما عانت الناجية (رحاب) بعد خروجها من السجن باعتبارها أنثى حسب ما قالت لنا، حيث كانت أولى الصفعات المؤلمة من قبل زوجها ووالد أطفالها الأربعة، الذي كان سبباً في اعتقالها أيضاً أثناء زيارته في منطقة وادي بردى 2013 حيث كانت المنطقة مع المعارضة آنذاك وأوقفت عند حاجز الأشرفية، تروي لنا قصة اعتقالها بالحدث الصادم الذي تعرضت له وهي في الخامس والعشرين من عمرها والذي أثر على مسير حياتها بعد خروجها من السجن.
أمضت رحاب عامين في المعتقل والتهمة أنها زوجة “مسلح إرهابي” تعرضت خلالها لمختلف أنواع العنف الجسدي واللفظي والنفسي فلم تسلم من الضرب والإهانة والتحرش الجنسي كما تدهورت حالتها الصحية بسبب الأمراض الجلدية والإهمال الطبي وانعدام النظافة وقله الطعام.
تصف رحاب أن التعذيب النفسي الذي تعرضت له كان أشد ألما من العنف الجسدي، فكان التهديد بالاغتصاب بقوة السلاح من أكثر ما يشق على نفسها لدرجة أن الكوابيس والأحلام المزعجة لا تفارقها الآن حتى بعد خروجها من السجن.
أُفرج عنها بصفقة مبادلة مع النظام، استقبلتها عائلتها ووقفت بجانبها بينما تخلى عنها زوجها وحرمها من أطفالها حينما التقت به بعد أسبوع من خروجها، فكان أول ما سأل عنه “قربوا عليكي شي” اغتصبوكِ؟ ثم استبق الجواب وأقرّ بحقيقة ما يسأل عنه ليقول لها “أنت امرأةً لا تصلح لي..” “أنت طالق”.
خذلت منه مرتين، مرة عند اعتقالها وأخرى بعد نجاتها، ثم حرمت من أطفالها فهي الآن “خريجة حبوس” كما وصفها ولا تنفع أن تكون أم أو زوجة له، هذه الوصمة التي لحقت بها كمعتقلة سابقة جعلتها تدرك أنها لم تنجُ بعد من الاعتقال وأنها اليوم حبيسة وصمة المجتمع ونظرته الدونية لها، غير أن وقوف عائلتها جنبها خفف عنها صدمتها النفسية وساعدها في الدمج مرة أخرى بالمجتمع.
لكن المعتقلة (سلمى) ذات السبعة وعشرين عاماً لم تجد بعائلتها السند الذي وجدته رحاب، فكانت بالنسبة لإخوتها الذكور وأعمامها مصدر عار لحق العائلة كلها ويجب التخلص منه بأي وسيلة.
تعرضت بعد نجاتها من السجن لكثير من العنف اللفظي والنفسي بين أهلها وأقاربها بسبب اعتقالها، وأكدت لنا أن أحد أخوتها الذين لم يتجاوز السابعة عشر قد حاول قتلها أول خروجها بتحريض من أعمامها وبعض الأقارب، سببت لها هذه التصرفات رضوضاً نفسية وصلت حد الاكتئاب والتفكير بالانتحار للخلاص من نظرتهم إليها، إلى أن وجدت نفسها مرغمة على الزواج بأول شخص يتقدم لها، فأصبحت تشعر أنها الجانية وليست الضحية!
كان المقاتل “أبو المغيرة” الأوزبكي الخاطب الوحيد لها، ودون أخذ رأيها تمت الموافقة من قبل رجال العائلة لتصبح بليلة وضحاها زوجة رجل أجنبي لا تعرف عنه سوى لقبه الذي يكنّى به، وتكون ضحية زواج قسري من رجل غريب ذو ماضٍ ومستقبل مجهول، لم يكن زواجها سوى محاولة للخلاص من وصمة المجتمع الذي لم يرحمها لتعيش مع رجل مختلف اللغة والثقافة والأفكار نتيجة ضغط الأهل والمحيط القريب.
هكذا يدفع المعتقلون والمعتقلات ثمن اعتقالهم مرتين، مرة من قبل النظام المجرم ومرة من قبل المجتمع وتقاليده البالية.
عذراً التعليقات مغلقة