حرية برس _ بسام الرحال
خمس سنوات من الحروب في سوريا كانت كفيلة أن تحمل الكثير من الألم والموت والمعاناة للأنفس البريئة، فما نشاهده من الصور المؤلمة للمصابين والقتلى والدمار قد يكون الزمان كفيل بتجاوزها ونسيانها، لكن مالا نشاهده ولا يمحوه الزمن فهو الأثر النفسي الذي ستتركه هذه الحروب بداخل كل من عاصرها وعايش الرعب والقلق وفقد عزيز أو قريب أو منزل يستظل بظله ليجد نفسه في العراء، حيث يعتبر السلاح الأشد فتكاً في الحروب هو التدمير النفسي الذي يدمر التوازن النفسي للمدنيين وعلى وجه الخصوص الأطفال، وهكذا الحروب دائما يصنعها الكبار ويقع ضحية لها الصغار.
إن أخطر آثار الحروب هو ما يظهر بشكل ملموس لاحقاً في جيل كامل من الأطفال، وسيكبر من ينجو منهم وهو يعاني من مشاكل نفسية قد تتراوح خطورتها بقدر استيعاب ووعي الأهل لكيفية مساعدة الطفل على تجاوز المشاهد التي مرت به، ومن الممكن تفادي هذه الحالات فقط إذا تذكر أحدهم الجانب النفسي للطفل في هذه الأوقات العصيبة.
أحداث يومية مليئة بالصخب :
يقول “أيمن ابو النور” وهو من أحدى قرى ريف حمص الشمالي و والد لطفلين تتراوح أعمارهم 13 سنة للطفل الكبير و 9 سنوات للصغير “أطفالي تملئهم مشاعر من الخوف والعنف والقلق المستمر واليأس، واستطيع أن اعلم ذلك من خلال مراقبتي لهم أثناء اللعب حيث يقوم ابني “احمد” دائماٌ برسم مشاهد من الحرب، كأشخاص يتقاتلون ويتعرضون للموت و رسم طائرات مقاتلة ودبابات ومنازل تحترق، ويميل مع أخيه الصغير “خالد” إلى اللعب بالمسدسات والبنادق التي يصنعوها بأيديهم من الخشب أو من أنابيب البلاستيك الخضراء”.
ويتابع “أيمن” قائلا: ” أكثر ما يخيف “أحمد” و”خالد” ويدب الرعب في قلوبهم، أصوات الإنفجارات من صواريخ وبراميل الطائرات وأصوات المدافع والقذائف التي تكاد تسمع يومياٌ، فبعد كل غارة طيران على المنطقة يجلس “خالد” مع أخيه بجانبي صامتان ويمسكان بطرف ثوبي، فأحاول إحاطتهم بين ذراعي والحديث معهم بأن كل شيء سيكون على ما يرام وأنهم لن يصيبهم مكروه وانتقي بعض الكلمات اللطيفة والدافئة لأشتت أفكارهم عن التركيز في الحدث المروع وخاصة إذا كانت الغارات المخيفة على مقربه منهم”.
“الطفل الكبير تستطيع مناقشة ما يجري معه وإقناعه أنه بمكان أمن ولن يطاله القصف، لكن ما تفعل مع الأطفال الصغار جداٌ الذين يبدؤن بالبكاء أو التبول على أنفسهم بشكل لا إرادي من الخوف بمجرد سماع صوت قذيفة أو غارة لطائرة”، تساؤل يطرحه “أبو شاهر” أحد قاطني مدينة إدلب مجملا ما يحدث مع أبنائه.
وبحسب ما يقول “ابو شاهر” في ظل هذه الأحدث المروعة بات من الضروري معرفة ما يدور في تفكير الطفل وأن نترك لمشاعره العنان في هذه الأوقات وهذا ما افعله مع أبنائي الثلاثة، فأقوم دائما بالرد على أسئلتهم والحديث معهم عما يجري ولا امنعهم من البكاء، ودائما ما أشجعهم على قوة التحمل وبث الثقة في نفوسهم وأحاول أن لا أغير أسلوب الحياة بشكل كبير وبقدر المستطاع حتى لا يتغير عليهم شيء، فهذه اللحظة هي الأهم في حياة الطفل النفسية وكلما تركناه يواجهها وحده يزداد أثرها السلبي بداخله على المدى القريب والبعيد”.
نجا من البرميل لكنه لم ينجو من الصدمة :
تعرض الطفل “عمار” ذو السبع سنوات لصدمة قوية عندما سقط بقربه برميل متفجر ألقته طائرات النظام على مدينة دوما بريف دمشق كما يروي لنا والده، ويشرح “أبو عمار” لـ “حرية برس” قائلا : ” نجا ابني من الموت بأعجوبة، لكن صوت الانفجار القوي بقربه شكل له صدمة إلى الآن لم يشفى منها، حيث أصبح انطوائيا يتملكه الخوف والقلق دائما، خصوصا عند سماع أي صوت قوي، وأصبح يبلل فراشه وهو نائم مع العلم انه لم يكن ذلك من قبل، وأسئلته التي لا تنتهي،( هل سنموت يا أبي.؟، متى يتوقف القصف .؟، هل ستأتي الطائرة لتقصفنا اليوم.؟ ).
ويشير ” أبو عمار” إلى أن :”الصدمة التي تعرض لها “عمار” بفعل البرميل المتفجر أقسى مما قد يتعرض له من جراء الكوارث الطبيعية وأكثر رسوخاً بذاكرته، ويزداد الأمر صعوبة عليه إذا تكررت هذه الصدمة مرة أخرى لتتراكم في فترات متقاربة، ومن معوقات الكشف عن الآثار السلبية لهذه الحالة لدى “عمار” صغر سنه، حيث يصعب عليه التعبير عن الشعور أو الحالة النفسية التي يمر بها والتي بدورها تؤدي على مشاكل نفسية عميقة”.
رأي علم النفس :
إنه ومن المعلوم أن الأطفال بحاجة ماسة إلى العديد من الحاجات الأساسية النفسية، والتي تتجسد عموما في خفض درجة التوتر والانفعالات النفسية التي يعانيها الطفل، كما يشرح المرشد النفسي والاجتماعي “جهاد هرموش”.
ويضيف قائلا: “الطفل يحتاج إلى الحب والحنان والرعاية والإحساس بالأمن العاطفي والنفسي، وان حصاد السواد الأعظم من الأطفال في ظل استمرار القصف المتواصل والحصار مع بؤس وشقاء الأهالي، شكل البيئة المناسبة والملائمة لأكوام من الجراح النفسية والمعنوية وقد انعكس ذلك كله سلبا على مسيرة الأطفال وحياتهم الروحية والعلمية والاجتماعية، حيث ظهرت أعراض الاكتئاب لدى العديد منهم تجلى ذلك واضحا في فقدان الاهتمام عند العديد من الأطفال وعدم شعورهم بأي متعه في نشاطاتهم اليومية، وتم رصد وتسجيل العديد من الحالات المرضية عند اغلب الطلاب في المدارس من قبل المرشدين الاجتماعيين والنفسيين”.
ويرى الأستاذ “جهاد”: “هناك شعور عام عند الأطفال بعدم الارتياح والاضطراب والهم المتعلق بحوادث المستقبل الغامضة من شعور بالضيق وانشغال الفكر وترقب الشر وعدم الارتياح حيال الم مشكلة متوقعه أو وشيكة الوقوع، لذلك من المحال ضمان ولو القليل من الحاجات النفسية للأطفال في مثل هكذا بيئة يسودها التوتر والانفعالات النفسية، حيث أن ظروف الحرب في هذه الحالة تمنع أي عنصر ايجابي ومناسب لنمو نفسي و اجتماعي سليم لدى الطفل، وتؤدي إلى ميل الطفل للعنف و الخشونة والتسلط وإخضاع الآخرين من الأطفال لرغباتهم بالشدة كالضرب والشجار والاستهتار”.
ويؤكد الأستاذ “جهاد”: “أن الحرب تركت أثرها الواضح من خلال لعب الأطفال، فمعظم الأطفال وعلى طريقتهم البسيطة قاموا بتصنيع أدوات الحرب من رشاشات وبنادق خشبية وكانت ألعابهم عبارة عن فرق متحاربة تطلق النار يمنة ويسرة حيث يقوم الأطفال بتمثيل الأدوار و المواقف، أما بالنسبة للإناث فقد اختلفت ألعابهم عن العاب الذكور إذ كن يقمن ببناء غرف صغيرة من الفرش ويدخلن بها وكانت أحاديثهن تدور حول المخابئ الآمنة وعدم وصول القصف إليهن”.
لا شك أن هذه السمات السلبية التي تشكلت عند الأطفال في ظل هذه الظروف لها أثرها المدمر على شخصية الطفل، لأن هذه السمات عند الطفل هي التي تحدد شخصية رجل المستقبل، ومع استمرار الحرب يصبح من الصعوبة بمكان تعديل السلوك الغير سوي إلى سلوك سوي ينتج عنه شخصية سوية قوية واثقة متوازنة تسهم وبشكل إيجابي في بناء المجتمع.
Sorry Comments are closed