تمرّ ساعات الليل ثقيلة وتقصر مسافة الموت مع كل قذيفة، يزداد هلع أولادك ويقلّ إيمانك بالمعجزة التي كنت واثقاً من أنها ستأتي. وتستسلم أخيراً أمام توسلات زوجتك وتخرج مع الفجر باحثاً عن سائق مازال مستعداً لنقلك.
عند الباب ستكرر على زوجتك مرتين أن تحزم الأغراض المهمة فقط؛ “إسفنجات وأغطية وشوية مونة وكثري لبس للأولاد الدنيا برد، ولا تحطي شغلات بلا طعمة، بس الشي الغالي”.
الشيء الغالي؟ أنت تعرف أن بيتك لا يوجد فيه شيء غالٍ، وأن ديون بنائه لم تسددها كاملة بعد، وأن حلمك بالوصول إلى الاستقرار بعد امتلاك منزل، والذي ظننته قد تحقق بعد طول سنين يكاد الآن يصبح نسياً منسياً.
ستجد السائق بعد طول بحث، وستدفع له ما يريده، وعند الباب سيتكوم أولادك كغربان سود يحملون أكياس ألعابهم البلاستيكية القذرة، تطلب منهم بغضب أن يرجعوها إلى البيت فلا متسع في السيارة، يرفضون ويزداد تشبثهم بها، فتؤكد أنك ستشتري لهم غيرها.. تقسم، فيجيبك الصغير: لا.. “هونيك” ما في ألعاب. كيف كبر هذا المدلل وبات يعرف الرفض والتمسك بألعابه؟ كيف عرف أن “هونيك” لا يوجد ألعاب؟
تبدأ وزوجتك بتكديس الأغراض في السيارة بمساعدة السائق الذي سيصنع بمهارة حيزاً بين الإسفنجات ليندس به أولادك ويقيهم الريح والأمطار على الطريق، تنتهي من وضع الأغراض بسرعة يضبطها إيقاع القذائف المقتربة، وبعد أن تضع أولادك يتبقى في السيارة فراغ صغير بالكاد يتسع لشيء، فتحشر به تنكة الياسمين التي اعتدت شرب قهوتك بجانبها.
وإذ تهم بالصعود يلفت انتباهك كيس أسود بين يدي زوجتك، تسألها عن محتواه فتقول لك: ماش! تعود لتكرر بغضب عباراتك عن ضرورة عدم اصطحاب أشياء “بلا طعمة” فلا تجيبك ولا تنظر إليك أصلاً، تفتح الكيس فتجد ثياب ابنك الشهيد، تصمت وأمام الدمعة التي تكاد تنفجر من عينها وعينيك تعيد الكيس إليها. أنت أيضاً أخذت أشياء “بلا طعمة” أم أنك نسيت الياسمينة.
قبل أن تقفل الباب أخيراً، ستودع البيت طالباً منه المغفرة، فالبارحة كنت تعاهده بأنك لن تخرج منه وأنك ستموت تحته وأنك وأنك.. ولكن فزع الأولاد كسر ظهرك، الأولاد الذين تمسكوا بألعابهم أكثر مما تمسكت أنت ببيتك! سيواسيك السائق مؤكداً أن الحجر يُعوّض، وأن المهم سلامتكم، كيف له أن يفهم أن روحك معلقة بحجارته؟ وأنك دونه لن تعرف السلامة قط؟
ودون أن تحدد الوجهة للسائق ينطلق، لا أحد يحدد الوجهة عندما ينزح، في الطريق ستكتشف سريعاً أنك لست وحدك، وأن سيارتك باتت الآن جزءاً من قافلة لا نهاية لها تتحرك كلها نحو المجهول. على أطراف البلدة تباغتكم امرأة حافية تحمل ابنتها الرضيعة وتبدأ بالضرب على زجاج السيارة الأمامي، تبكي وتتوسل لتصعد معكم، وأمام المشهد المجنون ينعقد لسانك ولا تنطق بحرف، يشتمها السائق ويطلب منها الابتعاد، تستمر المرأة بالبكاء والتوسل وتمد طفلتها قائلة: خذوا ابنتي فقط! تغيم الدنيا في عينيك وتحاول التهرب متصنعاً النظر إلى مؤخرة السيارة لتتفقد الأولاد، يحوقل السائق ويطلب منها انتظار السيارات التي في الخلف.
في الطريق، سيحدثك السائق عن إخوة لك على الضفة الأخرى من الجرح المسمى “وطن”، عن فرحهم بالنصر الذي يتحقق على بقايا حلمك، عن فرحهم بالطريق الجديدة التي ستقصر لهم مسافات السفر، وسيتساءل عن مشاعرهم وهم يمرون بسيارتهم من بين أنقاض القرى والمدن التي دمرت.
بعد ساعات سيصل بكم السائق إلى مخيم قال إنه فُتح حديثاً وقد تجدون فيه خيمة فارغة، هناك سيستقبلكم بعض الشباب، وستحصل على خيمة، سيفتح أولادك أكياس ألعابهم ضاحكين دون هم، وستجلس زوجتك في زاوية الخيمة تنتحب بصمت، أما أنت فستخرج بذريعة تفقد المكان، وعلى تلة تشرف على الخيام ستجلس وحدك، دون بيت ودون حلم ودون معجزة، وتحرر أخيراً كل الدمع الذي أثقل صدرك.
عذراً التعليقات مغلقة