حين تتوقف عن الكتابة يائسا من جدوى الكلمات أمام فظاعة حرب تدميرية، خصوصا أنّ الكتابة أغرقت المواقع والصفحات وفقدت قيمتها في الاستشراف وبناء رؤية، تجد نفسك، وأنت تشهد خطاب الكراهية والفكرانيّة الجامدة الحاضر بقسوة قاهرة، حتى لدى أطراف تحتمي بثورة الحريّة، تدرك أنّ ثورة الحرية ستفقد رشدها إنْ لم يواكبها يقظة فكرية، وأنّ التوجّه للمستقبل بالتفكير النقدي والبحث والكتابة ضرورة للتغلّب على ما نحته القهر والعنف والاستبداد من ندوب عميقة في العلاقات والأفكار وطرائق التفكير. تستمر الحروب مادامت منظومة التسلّط والاستبداد مستمرة في العمل؛ فأيّ عمل للأحزاب السياسية ومراكز البحث ومنظمات المجتمع والإعلام البديل سيكون تدويراً لسياقات الاستبداد والاستعمار والارتزاق. الغرض من مقالي هذا التأكيد على أهميّة إيجاد خارطة طريق للمستقبل برؤية نقديّة خالية من القهر والاستبداد.
الحرية الشرط الإنساني للحياة والإبداع
أي مشروع سياسي تحرّري، يصيبه الخواء إن لم يقترن بممارسة حقيقيّة واقعيّة لحريّة الرأي والتفكير والتعبير؛ فالحريّة شرط النمو عقليّاً وأخلاقيّاً. المسؤوليّة الواعية تتشكّل بالحرية لا بالقهر والاستبداد. صحيح أن لدى الشعب السوري وشعوب العرب قدرات ومقومات خلق وإبداع، تظهر هنا وهناك، تستطيع تغيير الواقع إيجابيّاً في حال تبدّلت الظروف السياسية الدّولية التي دعمت وتدعم الأنظمة القمعية المتسلطة وتنشر الحروب، لكنّها تفتقر لرؤية جامعة واعية للمستقبل سياسيّا وثقافيّا واجتماعيّاً. فالنصر لا يكفيه حلم الحرية وشعاراتها، يلزمه فكر تحرري تفكّري متطوّر وعمل منهجي يطابقه. وحتى لا تكون الثورة مجرد عضبٍ شعبي ينتهي بتسلط قوى إرهابيّة أو تمرد جياعٍ يشكّل عصابات ومرتزقة، عليها مواجهة التحدي الكبير بمكافحة منظومة الاستبداد، وذلك بخلق فضاءات واسعة للحوار الموضوعي والتفكير العميق غير المنعزل بجماعات وفكرانيّات ضيقة وأقليّات، وصياغة رؤية وخارطة للمستقبل في ضوء الحرية.
القهر وقمع الحرية أساس المعضلة السورية والعربيّة
إذا كانت ثورات الربيع العربي مضادة، جوهريّاً، للاستبداد والقمع والاحتلال؛ فمنطقي أن تصبح الأفكار التقليدية بكلّ أنواعها وأشكالها عاجزة عن تحقيق التغيير الشامل وبناء مستقبل متطوّر متحرّر متنوّع عادل، ففيها استبداد وتبعيّة. صحيح أنّ القهر والظلم أساس المعضلة السورية والعربيّة ووراء الصراع الحاد داخلياً وخارجياً؛ لكنّ المطالب السياسية لا تكفي وحدها؛ فالإخفاق السياسي للثورات العربية في تقديم بدائل سياسيّة ديمقراطيّة وإسقاط الأنظمة السياسيّة القهرية القائمة، يوازيه فشل المنظومات الفكريّة والثقافيّة التي استمرت قمعية، حتى في قلب ثورة الحريّة، وتعثرت في تقديم رؤية جديدة للمستقبل.
الجماعات السياسيّة المختلفة التي برزت في حراك ثورات الربيع العربي، عملت على إفساد الثورات بفرض أفكارها واشخاصها ونهجها إعلاميّاً وسياسيّاً وعسكريّاً، وتطويعها لمسائلها الخاصة ومصالحها، فعمّقت التفرقة الفكريّة والأهليّة، ولم تقدم التخطيط الرؤيوي الوطني الجامع الذي يتصدى بموضوعيّة لصناعة المستقبل، بل قدمت فكرانيّات مرتبطة بتشكيلاتها وتوجّهاتها. وقد سار على هذا الطريق أطراف كثيرة من سياسية وإعلاميّة وعاملة في المجالات الاجتماعيّة والمدنيّة والتربويّة والعسكريّة، وتيارات إسلامية ومسيحيّة ويساريّة وعلمانيّة رفعت شعارات الثورة والمعارضة، لكنها انحرفت بالعمل أو الخطاب بعيداً، عن مطالب الثورة الأساسية في التّصدي للاستبداد والإكراه والفساد والتفرقة. والأمثلة كثيرة.
د. محمد شحرور كحالة احتراب
أعرض، كمثال على الإكراه الفكري والاحتراب العصبي وضيق الأفق الرافض للاجتهاد والتطوير، حالة التفاعل مع وفاة د. محمد شحرور؛ فقد أشعلت وفاته الرأي العام ومنصاته الاعلاميّة الاجتماعيّة، بلعنه وشتمه بلسان مجموعات مسماة دينية إسلامية، أو لاحقة بها، هاجمته لأنّه، باعتقادها، حرّف في التفسير واعتدى على مفاهيم الدين، أو بمدحه بلسان جماعات مسماة علمانية ويساريّة، انبرت تدافع عنه لأنه قدم فكرا حداثيًّا وهاجم الأفكار والتشريعات الإسلامية المعروفة. الموقفان انطلقا من عصبيّة مسيسة، ومن تصورات مسبقة وتحيزات فكرانيّة، من دون علم وتثبت من صحة المعلومات والأفكار. فالذي يتابع أقوالهم وتعليقاتهم، يرى كثيرين اندفعوا مؤيدين أو مهاجمين بلا اطلاع صحيح على الأفكار في مواقعها، أو بمرور سطحي عجول وبأحكام مسبقة. لم ينقدوا تحليله وتأويله موضوعيّاً ليرودوا بما يوازي من تحليل وحجة ومنطق. اعتمدوا على أفكار وأقوال منقولة أو مقطوعة من فيديوهات أو لقاءات أو كتابات خارج سياقها المعنوي، وقولبوها وفق أهوائهم وعصبياتهم. قلّة هم الذين تعاملوا مع فكر د. محمد ومنهجه، تأييدا أو معارضة، بتفكير عميق ومعرفة وفهم، واعتبروا منهجه الفكري تجربة قابلة للنقد والمراجعة.
الغرض من عرض الحالة التفاعلية في قضيّة د. محمد هو الكشف عن دور الاستبداد في تسطيح قضايا مهمّة أخلاقيّة وفكريّة وسياسيّة، وإظهار التواطؤ بين الاستبداد وجماعاته وطوائفه التي غذاها ليتمكّن من الاستئثار الدائم المطلق بالقرار السياسي والمعنوي والمجازي، بدعم تشويه المعرفة الدينيّة والفكريّة والتاريخيّة واستغلالها، وبإفساد التفكير وتقديم التافهين لمراكز القرار والتأثير مع إسقاط المفكرين المتبصرين المستقلين وتصغيرهم.
الظلم من أي جهة كانت، يناقض مشروع الاستقلال وبناء دولة القانون العادل والعلم والتفكير. الحرب ضد نقد د. محمد للإرث الفكراني، وللطبقة الدينية المستفيدة من مقولاته المعصومة، الموجّه في محصلته ضد الاستبداد والتسلط، هي حرب صغيرة في قارعة حرب واسعة تشنها منظومة الاستبداد لمنع تغيير الواقع الذليل المتخلف، وإبقائه أسير الرجعيّة والنظرة المشوّهة للماضي والتاريخ، وقد شملت كثيرين غيره كسروا الأقفاص وغردوا خارجاً. صحيح أنّه لم يؤيد المعارضة السياسية السورية، لكنه لم يؤيد النظام. ووجهة نظره في الطرفين أنهما متشابهان في بنية التفكير ومنطق الإكراه والتسلط. هناك محاور أساسيّة في نقده للعقل الديني والثقافي الحالي تلتقي ومطالب التحرير والعزّة، وكان الأجدى بمن يتشدق بالحرية والإسلام أن يرد على أفكاره وفكره بعقل ناقد وحوار منطقي ضمن مفاهيم الإسلام كما وردت في التنزيل الحكيم، وعلى رأسها الحكمة والتفكّر والرحمة والجدل بالذي هو أحسن وعدم الإكراه، والقيم الإنسانية (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) بدل الهجوم بالتكفير والتخوين أو الدفاع العشوائي الساذج.
يقظة فكريّة وتيارات فكرية وسياسية متحرّرّة
أيّ ثورة تحرّريّة ضد نظام مستبد قد تقع في كمين ثورة مضادة، عندما تتسلط عقليّات رجعيّة مستغلّة، تفرض ذاتها بالإكراه والاستقواء بسند خارجي، وتعمل على تمكين فكرانيتها المتعصبة وتمكين أتباعها في المواقع المؤثرة؛ كالإعلام والثقافة والسياسة، وتحشد لعقائدها، وتطلق جماعات الشغب للتشويش ومحاربة خصومها ومخالفيها بالطعن بأفكارهم ومواقفهم وأخلاقهم مستخدمين سلاح عصمة الثورة وثوارها أو عصمة العقائد. السراب سينكشف في نهاية الدرب، ومن حصد الغنائم تكسّبا باسم الثورة، لن يصمد في قلب ثورة تحررية، سيثبت فيها من يعمل بتوجه مستقبلي وبرؤى نهضوية في نسق حضاري تجديدي.
المستقبل يحتاج لرؤية تتبلور في واقع تاريخي ناضج وبحامل ثقافي منفتح للتطوير والتفكير وخوض التجارب الجديدة، أي بعمل جماعي وبجهود علماء ومفكرين ومربين متنورين، وبتفاعل المجتمع بأكمله، وليس بأقليّة أو فئة، أي يقظة فكريّة تعمل على بناء تيارات فكريّة وثقافيّة وسياسيّة متنوّرة وتنويريّة متحرّرّة من التبعيّة والاستبداد، تثمّن الحرية وتعيد قراءة تجارب فكريّة وفلسفيّة في التنوير العربي الفكري الحديث لصياغة مشروع فكري سياسي حقوقي عادل من جوهر حضارة الإسلام وحضارة الإنسان. جماعات التشبث بالأفكار التي هرمت، والتفكير الذي تيبس لا تستطيع أن تتوجّه نحو المستقبل وتبنيه.
لم يكن للثورة السورية حامل ثقافي مسبق للافكار والمبادئ والقيم، كالثورة الفرنسية مثلا، كونها وإن تشابهتاكونهما، قامتا ضد القهر والظلم، ولكن كان للثورة الفرنسية مفكريها ودعاتها التنويرين وبيئتها المولدة والدافعة لها، بعكس الثورة السورية التي انفجرت نتيجة ظلم طويل وقهر عميق! مع مراعاة اختلاف الفارق الزمني بينهما وأسلوب القمع المطبق الذي مارسه النظام السوري المبكر خلال اغتصاب حافظ اسد للسلطة الذي مارس عين اسلوب العقلية البعثية القميعة الذي مهدت لهذا الفكر السلطوي والنهج الدموي! .
تجربة د. محمد شحرور هي صورة أولية لمشهد عام وكلي لحال ثورة قامت بلا نهج ومعالم فكرية أو كاريزمات قيادية واعية وعميقة الفكر والرؤية، فكان من الطبيعي أن يؤول الحال إلى ماعليه من تشتت فكري واجتماعي وتبعي!