الأزمة السورية معقدة بكل المقاييس، ومرد ذلك إلى عوامل عدة، بعضها يخص البنية المجتمعية السورية، وبعضها له علاقة بالمكانة الجيوسياسية التي تحظى بها سورية، وأهمية موقعها من عملية إعادة ترتيب المعادلات والخرائط الإقليمية والدولية. هذا إلى جانب المدة الطويلة التي ظلّ فيها الاستبداد متحكّماً بمفاصل الدولة والمجتمع، وتمكّن خلالها، وبصورة قصدية مدروسة، من تسطيح العقول والضمائر، وتفكيك الروابط الوطنية، بل ما قبل الوطنية، وحتى الأسرية، بين مختلف مكونات المجتمع السوري. واتخذ من الشعارات القوموية الكبرى، ومزاعم والصمود والتصدّي، والمقاومة والممانعة، أداة للانقضاض على الداخل الوطني، وإرغامه على القبول به، بذريعة استمرارية الأمن والاستقرار والازدهار. ولكن، ما أن اندلعت الثورة السورية نتيجة تراكم السلبيات، وانسداد الآفاق أمام أجيالنا الشابة، حتى ذاب الثلج وبان المرج.
وبعد إخفاق محاولات عدة للوصول إلى حل وطني في بداية الثورة، تم تعريب القضية، غير أن ترهّل النظام العربي الرسمي من جهة، والخلافات والاستقطابات البينية من جهة ثانية، منعا الوصول إلى حل عربي، كان من شأنه تجنيب السوريين خسائر كثيرة على صعيد الأرواح والممتلكات والمشكلات المجتمعية.
وكانت مرحلة التدويل التي تشكل، في بداياتها، انطباعٌ زائف، مفاده بأن الحل سيكون سريعاً، الأمر الذي كنا نأمل منه أن يقلل من سفك الدماء والآلام، غير أن ما حصل هو العكس تماماً، فها هي ثمانية أعوام مرّت، والجرح السوري النازف ما زال مفتوحاً.
اجتماعات كثيرة إقليمية ودولية عقدت للبحث في الموضوع السوري، وجولات عدة من المفاوضات غير المباشرة أجريت بين النظام والمعارضة في مختلف المراحل. ندواتٌ وورشاتٌ ولقاءاتٌ تحت عناوين متنوعة نُظمت بين السوريين من مختلف التوجهات والانتماءات، بصورة علنية وسرية، في أماكن عديدة في العالم، إلا أن ذلك كله لم يؤد حتى الآن إلى نتيجة. بل على النقيض من ذلك، ازدادات التدخلات الدولية والإقليمية، ودخلت القوات الإيرانية مع المليشيات التابعة لها إلى الساحة السورية. كما دخلت القوات الروسية، والأميركية مع حليفاتها الغربية، ومن ثم دخلت القوات التركية. هذا إلى جانب دخول المليشيات والمرتزقة، وأصحاب المشاريع الأيديولوجية والعقد النفسية الذين وجدوا في الجغرافيا السورية فسحةً لتجسيد المتخيّل من ماضٍ إشكالي لم يعرفوه بأبعاده الحقيقي
وكان من نتائج ذلك كله خروج زمام المبادرة من أيدي السوريين، سواء من جهة النظام أو من جهة المعارضة، فالنظام، بعد إصراره على المضي في طريق مواجهة مطالب السوريين المشروعة بالحديد والنار، تحوّل، مع الوقت، إلى مجرد أداة بيد الإيرانيين والروس، وواجهة لشرعنة اللامشرعن غير القابل للشرعنة. ولم يعد، في مقدوره، طرح مبادرة إنقاذية واقعية مسؤولة، مبادرة من شأنها إقناع السوريين بجدية الطرح، والرغبة الحقيقية في الوصول إلى حلٍّ مقبول وطنياً. بل كل ما سمعناه، ونسمعه، لا يتجاوز نطاق التخوين والتشفّي، والاستقواء بالآخرين على السوريين.
هذا في حين أن المعارضة الرسمية قد تحولت، هي الأخرى، لا سيما بعد عمليات القص واللصق والتدجين والتهجين، إلى مجرد واجهةٍ للأجندات، عاجزة عن التصرّف بحرية، وغير قادرة على إقناع السوريين بتمثيلها لهم، الأمر الذي يُصادر على إمكانية تقديم أي مبادرة جريئة، ناضجة، مسؤولة، ترتقي فوق الحساسيات والحسابات الفرعية التي لا تتقاطع مع النظرة الوطنية العامة التي لا بد أن تأخذ في اعتبارها ضرورة فهم هواجس سائر السوريين، والعمل على طمأنتهم جميعاً من دون أي استثناء.
ولتجاوز هذه الوضعية، كانت اجتماعات واتصالات كثيرة بين السوريين من مختلف الاتجاهات والمكونات، ولكن ذلك كله لم يؤد إلى المطلوب حتى الآن، إلا أن ما طرح، ويطرح، في مختلف اللقاءات، يشكل مادة يمكن الاستفادة منها، والبناء عليها، عبر تطويرها وتدوير زواياها الحادّة إذا صح التعبير.
والمبادرة التي طرحها أخيرا الشيخ معاذ الخطيب بصورة فردية تدخل، هي الأخرى، ضمن نطاق ما قُدم، ويقدّم، حتى الآن من مشاريع حل. وهي مبادرةٌ تستوقف، بإيجابياتها وسلبياتها، وتؤكد أهمية البحث عن مخرج. هذا بغض النظر عما إذا كنا نوافق الخطيب أو نخالفه فيما ذهب إليه في سياق تشخيصه أسباب المشكلة، واعتقاده بإمكانية مخاطبة الجانب الخير في الحاكم، والتأثير فيه، هذا على الرغم من الشك في وجود هذا الجانب أصلاً بعد كل هذا القتل والتهجير والتدمير.
الوضعية السورية، كما سلف، معقدة، والمحنة عصية على أي توصيف. والمشكلات المجتمعية التي تنتظر السوريين، سواء ما يتصل منها بالنسيج المجتمعي السوري، أو تلك التي تنتظرهم على مستوى الأفراد والجماعات والجهات، كثيرة وجسيمة، خصوصا في ظل استمرارية حالة مناطق النفوذ التي ستؤدي، في نهاية المطاف، إلى التقاء المصالح والأهواء بين بعض السوريين والدول التي تتقاسم تلك المناطق. ومن يدري، فقد يأتي بعضهم بعد عقود، ما لم تحل القضية السورية، ليحوّل النفوذ إلى صيغةٍ من القضم والإلحاق، كما فعلت إسرائيل مع الجولان، وذلك تحت ذريعة الموجبات الأمنية، في ظل حالة الفوضى الشاملة في البلد.
وماذا عن سوريي المخيمات والمهاجر في الجوار الإقليمي والدول الأوروبية وبقية أنحاء العالم؟ هل ستتحول إرادة العودة السورية والحق المشروع إلى مجرد حلم شبيهٍ بذاك الذي يلوذ به فلسطينيو الشتات؟ ما يستشف من نتائج الجهود الإقليمية والدولية التي كانت، حتى الآن، على مختلف المستويات، وعبر المسارات المتعدّدة، هو عدم الوصول إلى حل يطمئن السوريين، بل لا توجد هناك بوادر مشجعة تبشّر بإمكانية الوصول إلى حل من هذا القبيل، سواء عبر اللجنة الدستورية، أو من خلال تلك التي من المفروض أن تبحث في موضوع الانتخابات، والقواعد التي ستنظمها.
السوريون في حاجة ماسّةٍ إلى تواصل بيْني داخلي، يتجاوز التصنيفات المتعارف عليها حالياً: موالاة ومعارضة. حوار لا يضع شروطاً، ولا سقفاً، لأي حل يتوافق عليه السوريون. مع استعداد الجميع لتقديم التنازلات، واتخاذ القرارات الصعبة التي تعطي الاعتبار الأساس لترميم النسيج المجتمعي، وبناء الوحدة الوطنية على أسس سليمة، تطمئن الجميع عبر احترام خصوصياتهم، والإقرار بحقوقهم، وتضمن مشاركتهم في الإدارة على مختلف المستويات. ومثل هذا الحوار يمكن أن يكون على مراحل مختلفة، ضمن خطةٍ شاملةٍ متكاملة، تمهّد كل مرحلة للتي تليها.
المرحلة الأولى، تبدأ بحوار وطني معمق بين النخب السورية من المفكرين والباحثين ورجال الدين ورجال الأعمال والفنانين والزعامات المجتمعية… إلخ من سائر المحافظات، ممن يمثلون جميع المكونات المجتمعية، ويحظون بدور مؤثر من خلال التجربة والمصداقية في وسطهم الاجتماعي، ولديهم وجهات نظر متباينة حول المستقبل السوري، إلا أن ما يجمعهم هو الاعتدال، والإحساس بالمسؤولية، والقدرة على إيجاد الحلول بناء على التوافقات المستخلصة من المواقف المتعارضة. ولعل من المناسب أن يشار هنا إلى أمر من هذا القبيل، سيساعد كثيراً في موضوع المصالحة الوطنية، والعدالة الانتقالية، وذلك من ناحية حدودها وصيغتها، التي لا بد أن تأخذ مجراها، حتى يتمكن السوريون من استعادة قواهم، وترميم نسيجهم المجتمعي، وبناء وطنهم. وفي هذا المجال نماذج كثيرة في العالم، يمكن الاستفادة منها.
أما عن كيفية اختيار هؤلاء، فما نراه أن التجربة القاسية التي مررنا بها ساعدت كثيراً على معرفة السوريين ببعضهم، ومكّنتهم من معرفة طبيعة معادن الأشخاص عبر الممارسات، فأسماء كثيرة أخفق أصحابها في الامتحان الوطني. وهناك أسماء كثيرة أثبتت وجودها (خصوصا من الشباب) بفضل ممارساتها الوطنية المتوازنة التي لم تتأثر بالنزعات المتشدّدة دينياً أو قومياً أو أيديولوجياً.
ويمكن الاستفادة، في هذا المجال، من إسهامات المشاركين في مختلف الورشات واللقاءات التي نظمتها مراكز الأبحاث، لاعتبارات متباينة، كما يمكن الاستفادة من النتائج والاستخلاصات التي توصلت إليها. أما مكان هذا اللقاء، فمن الأفضل أن يكون خارج المنطقة، وبعيداً من الدول التي لها أجندات في سورية، منعاً للقيل والقال، وعدم إحراج أي فريق. وربما تكون إحدى الدول الإسكندنافية المكان الأنسب، فلديها خبرة في تنظيم لقاءاتٍ كهذه، والمساعدة في حل العقد بطريقة مهنية.
وبعد التوافق العام بين هذه النخب على مشروع عقد وطني سوري، تأتي المرحلة الثانية ليجتمع السياسيون من مختلف الأحزاب والمنظمات التي لها وجود فعلي، ويكون معهم شخصياتٌ سياسيةٌ مستقلةُ ممن يمتلكون مصداقية شعبية وطنية، ليتم استكمال النقاش، حول مشروع العقد الوطني المقترح، وإقراره بعد أخذ الملاحظات بالاعتبار، وإضافة المقترحات المقدمة، ويتم التوافق على خريطة الطريق للخروج من الأزمة. أما المرحلة الثالثة، فهي التي تجمع بين المهنيين والإداريين ممن ما زالوا مع النظام، وأولئك الذين انشقوا عنه، وذلك للتباحث بما تم التوصل إليه، وتوافقت عليه النخب والسياسيون، والعمل على صياغة المحدّدات الخاصة بكيفية إخراجه وتطبيقه. وتتوج المرحلة الأخيرة بمؤتمر سوري جامع شامل، يناقش وثيقة العهد الوطني ويقرّرها، ويشكل لجنة دستورية بإرادة سورية خالصة من الكفاءات المؤهلة. وبعد كتابة الدستور الذي سيعتمد المشرع وثيقة العهد الوطني أرضية له، يعرض للنقاش الوطني، عبر آلياتٍ يتم الاتفاق حولها. ومن ثم يكون هناك استفتاء عام لإبداء الرأي فيه. ولن يكون ذلك ممكناً بطبيعة الحال، من دون توفير البيئة الآمنة والمحايدة التي تستوجب جملة من الإجراءات المبنية على النيات الصادقة.
ومن هذه الإجراءات: إطلاق سراح جميع المعتقلين الساسيين، أو على الأقل إحالة قضاياهم إلى المحاكم الجزائية العادية، بعد إلغاء المحاكم الاستثنائية، كمحاكم الميدان العسكرية ومحكمة الإرهاب، وتوفير البيئة المقبولة لتأمين العودة الطوعية للنازحين واللاجئين، وأهمها إلغاء مذكرات الاعتقال الصادرة بحقهم، ورد المساكن والممتلكات التي صودرت منهم بدون وجه حق، ورفع الحصانة الممنوحة لعناصر وضباط الأمن من الملاحقة القضائية، لأن البحث عن البيئة الآمنة والمحايدة، مع وجود هذه الحصانة، يكون عبثيا، بالإضافة إلى ضرورة إلغاء وتعديل قوانين ومراسيم كثيرة تنتهك حقوق الإنسان الأساسية، كقانون مكافحة الإرهاب وقوانين الإعلام والأحزاب والقوانين العقارية، ونترك البحث في تفاصيل هذا الأمر لأهل الاختصاص والخبرة في هذه القضايا. وبعد ذلك، تجرى الانتخابات العامة الحرّة النزيهة، بإشراف الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، على أساس الدستور الجديد، انتخابات لا تستبعد أي سوريٍّ، سواء في الداخل أو في الخارج.
بقي أن نقول: من الواضح جداً أن السوريين، في ظروفهم الحالية، لا يستطيعون، بإمكاناتهم الذاتية على مختلف المستويات، القيام بأعباء هذه الخطة. لذلك ينبغي تقديم المساعدة لهم بمختلف الأشكال، من خلال الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي، وبدعم أميركي وروسي، وموقف إيجابي من جانب الدول الإقليمية، حتى يتمكن السوريون من الالتقاء في أجواء حرة، من دون أي ضغط إعلامي مع الحصول على الوقت الكافي للمنشأت واللقاءات الجانبية التي تساعد عادة في حلحلة عقد كثيرة، ومن دون أي تهديد أو ترغيب.
ما تقدم لا يخرج عن نطاق وجهة نظر شخصية، مبنية على مختلف التجارب والمحاولات التي شهدناها، وتابعناها، وسجلنا حولها الملاحظات. ومن الطبيعي أن يكون للسوريين، من المهتمين والمتابعين والحريصين على مستقبل أجيالنا المقبلة، وجهات نظرهم الخاصة أيضاً المتباينة، وربما المخالفة حول الموضوع، وما نأمله أن تتفاعل وتتكامل مع ما هو مطروح، حتى نخرج بخطة نعتقد معاً بإمكانية تطبيقها. أما ما نشهده راهناً من تحكّم دولي إقليمي بتوحيد “المعارضات” وتشكيل اللجان، وتحديد السلال، وإملاء الدساتير، وتبادل الخدمات في ميدان توزيع مناطق النفوذ، فذلك كله لا يحمل لشعبنا وبلدنا أي وعدٍ بأي أمل.
عذراً التعليقات مغلقة