كل شيء أصبح ملتهباً بغمضة عين، ضجيج ذكريات، حلم قد نام على مضض وثأر لا يخبو.
كذبوا عليك حينما قالوا احن رأسك للعاصفة عند هبوبها، لم يفعلوا ذلك إلا ليركبوا على ظهرك، الأَولى بك أن تفتح لها قلبك وعقلك متجهزاً لأي صدام، فإذا كانت عاصفة كن أنت الإعصار!
كان حريَّاً بطفل مثلي في الحادية عشر من عمره أن ينكبّ على ألعابه وعرَباته، يطارد هذا ويلحق ذاك، يتعارك مع أولاد الحارة مثلاً، لكن ثمة دودة فضول نهمة في داخلي كانت تأكلني رويداً رويداً، لم يعد أحد بعد اليوم باستطاعته إلهاؤها، لا كروم العنب ولا بهو الدار.
تساءلت كثيراً عن سرّ هذا التكتم المتقع للحدث المهم الذي لم أعرف عنه شيئاً بعد إلا أنني استطعت أن ألمح غمامة سوداء من الرعب حطت على مدينتنا وأشرعت سوادها على بيوت المدينة، وبعد جهد جهيد فهمت أن مجموعة تدعى بمجموعة شباب داريا خرجت بمظاهرة تندد بالغزو الأمريكي للعراق، وتحث على تنمية النشاط المدني مما أثار حفيظة نظام القمع فاعتقل حوالي 24 شاباً وطارد عدداّ منهم، فكان هذا الحدث بحد ذاته كفيلاً لجعل أهالي البلدة يقفون على ساق واحدة هلعاً خيفة أن ترصدهم أعين النظام أو يلاحقهم شبه الاعتقال.
ترى ما الذي حصل بالضبط وهل تنظيف البلد أو الوقوف في وجه الفساد عمل مشين حد الاعتقال؟ ثم ما هو هذا المعتقل الذي ترتعد فرائص أشجع الشجعان عند ذكره؟
بشكل ما أنشأت نفسي في الظل حتى كبرت كشجر الخيزران تماماً، محاولاً البحث عن إجابة لزوبعة الأسئلة في دماغي؛ فهممت أطالع الكتب وأتردد على مقاهي الانترنت وأسكن في المسجد متعطشاً للمعرفة التي تطفئ نار فضولي.
وبالطبع ما أعقب ذلك من أحداث على صعيد المنطقة بشكل عام من حرب لبنان والحرب على غزة و إعدام صدام حسين ساهم بشكل كبير في صقل شخصيتي الفكرية والسياسية وأفسح المجال للتوجهات الفكرية أن تنطلق ولو على استحياء في المجتمع الداراني فكان أبرزها: تيار الأستاذ عبد الأكرم السقا فرج الله عنه الذي تبنى فكراً حاربته شريحة واسعة من المجتمع المحافظ، وتيار طلاب المساجد بمدارسه الفكرية المختلفة (مدرسة جامع أبو النور في دمشق، جامع زيد في دمشق)، واتخذ هذا التيار منحى آخر فاتجه نحو مسايسة النظام دون الصدام المباشر معه.
هذا التنوع والوعي لدى شباب داريا الذي تفجر على الرغم من بساطة أهلها الفلاحين، أفسح المجال لمزيد من التطور على الصعيد المدني والثقافي والاقتصادي، رغم أن النظام وضعها ضمن مدن القائمة السوداء العاقّة الخارجة عن الطاعة، فحاربها وضيق على أهلها بشتى الطرق ولم يولها أية عناية تذكر مما دفع أهلها الذين يصل عددهم 250,000 نسمة، إلى الاكتفاء بذاتهم فكان لدرايا سوقها الخاص الذي يرتاده سكانها وآخر للموبيليا، كما أنها مشهورة بالعنب الداراني الذي يُسكر كل من يتذوقه لحلاوته، وقد ذكر الأديب الطنطاوي فيما قرأت أنه في أحد المعارض عرض لداريا وحدها مئة وسبعة أنواع من العنب!
وأنشِئ فيها جمعية خيرية وجمعية للأيتام وأخرى للمرضى ووللزواج يشرف عليهم شباب البلد وأهلها.
فلله درُّ داريا إذ لا يطيب العيش إلا بقربها ولا يهنؤ الساكن إلا بأرضها، وما أبلغ البحتري حين قال فيها:
والعيش في ليل داريا إذا بردى والراح نمزجها بالماء من بردى
واستمر الحال حتى عام 2011 مع بداية الربيع العربي وقيام ثورة تونس ومصر وليبيا، وكما يقال: معظم النار من مستصغر الشرر، لم يكن يعنّ على بالي يوماً أن يمتد هذا الشرر ليطال سوريا فمن سمع ليس كمن رأى، في مملكة الرعب حرام عليك أن تتنفس أو تتكلم وحرام على أحلامك أن تتجاوز فكرة الحفاظ على وجودك فإذا أردت ذلك فنفذ ولا تعترض! وللقصة بقية …
عذراً التعليقات مغلقة