وجـوه..
الشّاعر فرج بيرقدار.. طائرٌ واحدٌ يكفي لكي لا تسقط السّماء
بقلم: سليمان نحيلي
لايستطيع القارئ أو الدّارسُ لمجمل نتاج الشاعر السوري فرج بيرقدار إلاّ أن يتوقف طويلاً عند تجربته في مرحلة الاعتقال التي استمرّت أربعة عشر عاماً، أمضاها كمعتقلٍ سياسي معارض في سجني تدمر الصحراوي وصيدنايا، السّيئي الصّيت.
إنها أربعة عشر عاماً، أمضاها في أقبية الرعب والموت والجنون، حيث حياة السجين منحةٌ بيد السّجان يهبها إياه أو يحجبها عنه متى أراد، دون أية مساءلة.
وفي السجن، حيث أدوات التعذيب متعددة الأسماء، عابرةٌ للجنسيات، من الدولاب السوري إلى الكرسي الألماني فالسلّم الاسباني، إلّا أنها تجمعها كنيةٌ واحدةٌ هي قتل روح الحرية في الإنسان.
وبشكل عام فإنه في كل ماكتب بيرقدار من «تدمريّات» و«صيدنايات» يبقى السجن، كما قال، سؤال الحرية الأول، وبالتالي حضورها الأقصى، وإن كان مطروحاً من واقع النفي، حيث يقول في هذا المعنى:
الحرية وطنٌ
وبلادي منفى ..
في هذا الواقع المرير كتب الشاعر، واللافت للانتباه حقاً هو قدرته الجادة على تحدّي كل تلك العذابات، والإصرار على الكتابة وخلق فضاءات واسعة بالرغم من المحدودية التي تفرضها طبيعة السجن.
فالحرية لديه هي القيمة الأسمى في فلسفة التاريخ البشري، ولذلك ينبغي أن يبقى الفضاء متاحاً للتحليق ولو لم يتبقَّ سوى طائر واحد:
طائرٌ واحد يكفي
لكي لا تسقط السّماء…
ولعلّ المتلقّي، لن يستطيع الوقوف بشكل كامل على ظروف الشاعر النفسية وغيرها المحيطة به في السجن، إلّا بتلمّسِ كتابه «خيانات اللغة والصمت» الذي كتبه كباقي كتبه في السجن، على ورق السجائر، وتمّ تهريبها وطباعتها خارج سوريا، حيث يشكل الكتاب حسبما سمّاهُ (تغريبتي في سجون المخابرات السورية)، السّيرة السّرّية لكل مجموعاته الشعرية التي كتبها في المعتقل وحتى أول شهيق من هواء الحرية، إنه توثيقٌ أدبي لمرحلة السجن، يتداخل فيه السرد الروائي بروح وذات الشاعر، هو باختصار قصيدةٌ طويلة مكتوبة على بحر الوجع والحرية.
ولقد آثرتُ في هذا المقام، أن أُسلّط الضوء على مجموعتيه: قصيدة النهر، و مرايا الغياب، تاركاً باقي مجموعاته لمناسبة أخرى.
فمجموعته «قصيدة النهر» عبارةٌ عن قصيدةٍ واحدةٍ كتبها في سجن صيدنايا في العام 1995، لقد حاول في هذه المجموعة رواية سيرةٍ ذاتيةٍ له، وللنهر: نهر العاصي الذي وُلد على ضفافه في مدينة حمص، كنهر يمثل تاريخ سوريا وتحولاته، وكرمزٍ أدبي قادر على أن ينطوي على بعدٍ كونيّ يتعلق بمجرى الحياة كما في سيرورتها الحتمية نحو التحرر والانطلاق..
قالني النهرُ
أَمْ قلتهُ
ليتني كنتُ أدري ..
استهلّ فرج مجموعته بتلك الومضة الشعرية التي تكتمنُ على فلسفةٍ خاصة اختطها لنفسه عبر صفحات المجموعة، هي فلسفة التوحد بالنهر التي تقوم على «وحدة المركز ثمّ تجاوزه»، حيث تتشابه عناصر و مكونات النهر مع مثيلاتها لدى الشاعر، فالمكانُ المركز: هو «النبع»ُ بالنسبة للنهر، وهو « أنا» المبدعُ الذاتيةُ بالنسبة للشاعر، «والزمان» هو «وقت التشكّل والتّجمّع» تأهّباً للجريان في حالة النهر، يقابله لدى الشاعر «وقت التّشكّل الروحي» عبر احتدام المعاناة وتجميع صورها ومفرداتها داخل الأنا المبدعة التي باتت تحمل كل مكونات الانطلاف في أرض القصيدة، ليأتي أخيراً عنصر التّوحد الثالث مع النهر، وهو «الحركة – جريان الماء» حيث يغادر النهر منبعه، فيتدفق بالماء في أرضٍ جديدة راسماُ لنفسه بعداً جديداً، حيث يختطّ مجراه بنفسه نحو البحر ليصبّ هناك على شاطئ الحرية في الأزرق الشاسع..
وكذلك الشاعر ينطلق بقصيدته المرتقبة مغادراً ذاته المبدعة التي تتحول من «الأنا الذاتية» إلى «الأنا الجمعية» التي تمثل صوت العام «الوطن» المكبل بأغلال الاستبداد والقمع السلطوي.. ففرج مبدعٌ حقيقيٌّ كالنهر، لايقفل عليه بابه ويجلس ليكتب متمركزاً حول ذاته، بل إنه يفتح بابه المفضي إلى الشارع «العام» متشظّياً بكل كينونته على مفردات هموم الشارع والمجتمع وقضاياه الكبرى التي أهمها قضية الحرية، إنّ مساره مسارُ نهر، ومصيره مصيرُ نهر إلى الحرية، يقول:
كلّ ما في داخلي يصلّي
مؤمناً أنني يوماً ما
سأشربُ الحرية حتى الثّمالة ..
وأعتقد أنه لايخفى ما لنهرِ العاصي من الدلالات التي تتقاطع مع ذات الشاعر من حيث كون نهر العاصي معاكساً بمنبعه وجريانه عموم أنهار سوريا التي تتبع من الشمال وتسير جنوباً، إلا هو، على عكسها، ولذلك سُمّي بالنهر العاصي، وبذلك يتقاطع الشاعر معه في موقفه من الواقع العام، المضاد للقمع والمتمرد عليه والعاصي لسلطته.
وفي السجن علاوةً على العذاب الجسدي، يواجه الشاعر عذابات نفسية فادحة تهدف إلى كسر روح التمرد لديه، وإلى انتهاك شخصيته واعتباره وقيمته كإنسان، ومن تلك الممارسات إطلاقهم أرقاماً على السجناء، بحيث يمتنع على السجين اسمه، ويُنادى برقمه المجرد من كل اعتبار انساني، ولذلك عوقب شاعرنا لأنه أصرّ على الانتصار للإنسانية، وقدّم نفسه للسجّان باسمه وليس بالرقم 13، ولهذا فإن السجين يولد من جديد إذا نُوديَ باسمه، ها هو يجسد لنا هذه الحالة شعراً:
انهض فلن تفنى
لقد نُوديتَ باسمكَ
لقد بُعثتَ …
وحيال ذلك كان على الشاعر أن يحصّن روحه ضد هذه التحديات، ففي السجن ليس لكَ إلّاكَ .. روحكَ وإرادتكَ سرّ بقائك وعدم انكسارك:
قلتُ ياشببهي،كن ماءً أو حجراً
رملاً مبللاً بالسرابِ
أو خضرةً جارحة
طائراً مرتبكَ الجناحينِ
أو فضاءً أيأسَ من أن يضيق..
فكان الشعر بالنسبة لفرج صمّام الأمان، إذ لولاه لانهزمَ وسقط، والعامل الذي شكّل توازناً نفسياً حافظَ به على صفائه الروحي وعدم تشوهه:
صفوتُ حتى أوشكتُ على الماءِ
وأوشكَ الماء على الومضِ
والومضُ على الرّؤيا
والرؤيا على الكشفِ
والكشفُ على الغموضِ
والغموض على الشعر..
لقد استطاع بفضل الشعر سجنَ السجنِ، كما قال في خيانات اللغة والصمت.
وبيرقدار كمناضل ومعتقل سياسي صاحب تجربة مديدة مع السلطة القمعية، مؤمنٌ أنّ الطغاة لا صلاح لهم، وبأنّ من وصل إلى السلطة بالقوة لن يتركها إلا بالثورة التي تدكُّ عروشهم، وتكسّر أصنامهم وأسماءهم التي فاقت أصنام الجاهلية:
ساعدي ريحكِ يا أُمَّ الأُمهاتِ
فإما أنْ نخلعَ العروشَ والأسماء
وإمّا أنْ نُضرّجَ السّماواتِ بالولاويل …
وفي مجموعته (مرايا الغياب) التي كتبها في السجن أيضاً، يتابع ُ الشاعر مشروعه الشعري عن الحرية، فيطرقه من الغياب داخل أبواب السجن الذي ماهو إلا الثمن الباهظ للحرية يدفعه عشاقها من أعمارهم.
فالمرايا المئة التي تشكّل هذه المجموعة، تعكس واقع الغياب القسري داخل السجن، ولكنها لم تأتِ مصفوفةً بشكلٍ متتالٍ إلى جانب بعضها بعضاً كطابور السجناء، إنما وضعها الشاعر متقابلةً متواشجة مع بعضها، بحيث تصدر كلٌّ منها حزمةً تضيئُ جانباً من جوانب السجن وصورةً من صوره، لتلتقي كل تلك الحزم مع بعضها مشكّلةً مرآةً كلّيّةً كبيرةً تمثل واقع الوطن من الداخل، وترسل إشاراتٍ كافية للإفصاحِ عن واقع الوطن خارج السجن، مرسلاً في النهاية رسالةً مفادها أن الوطن كله سجنٌ كبير.. وأن أهله كلهم سجناء، من كان منهم وراء قضبان السجن، أم خارج القضبان.
في مرايا الغياب اشتغل الشاعر على عناصر (الحضور – الغياب)، الثلاثة: الغائب والمكان المغيب عنه وزمان الغياب.. ففي السجن يحدق بالسجين غيابٌ محضٌ، إنه غائب عن بلدته وأُناس يحبهم، وحتى الزمان الذي بقضيه في السجن فهو يمضي بلا حساب، فمع تراكم السنوات، يكفُّ السجين عن حساب سنوات غيابه، ويشرع في التدرب على نسيان الزمن.
ولذلك فإن ما يلفت الانتباه في مراياه المذكورة تناوله الكثير من الحالات الانسانية الدقيقة التي تدور حول الغياب أو نفي الحضور، حيث ركّز على الانسان باعتبار أنه الشخص الذي يستهدفه الغياب.. ونرى الشاعر قد ذرعَ مساحاتٍ جديدة لا توجد إلا في السجن، فاستطاع بدقة ملاحظته وحسه المرهف التقاظ صور عميقه من داخل السجن:
لا شمس هنا في السجن
ولهذا أجدني عارياً من الظلال..
لنقرأ معاً هذه الصورة الأليمة الموحية للسجين المنسي رقم 1، يقول:
السجين رقم واحد
أمس رمى في بئره الحجر الثاني والثلاثين
ولم يسمع صدى يقول له
ارتطم الحجر بالماء
ولاتخفى هنا الإشارة إلى السجن من خلال مفردة البئر التي ترمز إلى بئر يوسف عليه السلام.
ومن مظاهر اهتمامه بالأشخاص كأحد عناصر الغياب، كانت المرأة أبرز تلك الأشخاص، حيث تناولها في كل تجلياتها عبر الأم والحبيبة والأخت والابنة.
وتشكل الأم قبو الروح بالنسبة لبيرقدار، فقد أضنى قلبها غيابه، وكذلك فعل به نفس الشيء، لذلك نرى تكرار ذكر أمه التي تنتظر عودته وتعدّ الأيام بالدمع، قد أضفى على المجموعة عمقاً عاطفياً وتأثيراً حزيناً لدى المتلقي نظراً لما للأم من مكانة هامة جداً في مجتمعنا، يقول في ذلك:
قلبهُ جرسٌ
جسده كنيسةٌ
وعيناه مغمضتان على امرأةٍ
ترتدي حزنها
وتقيمُ لعودته قدّاساً من الدموع
ولعلّ الشاعر لم يشغله غياب المرأة الحبيبة كجسد كثيراً، فقد أصبحت بالنسبة إليه وهو طيّ السجون معادلاً فنياً رمزياً للحرية، يقول رامزاً للمرأة بالوردة والحرية مبتعداً عن نداءات الجسد:
ترى .. ما الذي تستطيعه الكلمات
وما الذي أستطيعه
من غير الوردة..؟
والملاحظ أن شاعرنا لم يحفل كثيراً بكتابة القصائد الطويلة، فجاءت قصائده قصيرة أشبه بالبطاقات أو الومضات الشعرية، ولعل لذلك مايبرره، إذ لم تكن أدوات الكتابة متوفرة لديه في المعتقل إلا نادراً، وربما المساحة الصغيرة التي توفرها أوراق السجائر للكتابة، جعلته يضغط قصيدته لغوياً الأمر الذي حدا به إلى اختيار القصيدة القصيرة القليلة المفردات الكثيرة الطاقة الدلالية والخيالية والشعورية.
ولما كان فرج بيرقدار شاعر الحرية الذي دفع من عمره ثمناً لها، فقد كان من الطبيعي أن تنتشر في أرجاء أعماله ألفاظ الحرية ومدلولاتها وإشاراتها مثل (السّماءِ، الزرقة، الريح، الجهات، النافذة، الطيور، الخيول والوردة).
إنه نداء الحرية الذي لبّاه، فكان عاشقاً كبيراً ومناضلاً كبيراً وشاعراً كبيراً.
وعندما أُطلق سراحه، استكثرت عليه السلطات المستبدة أن يعيش في وطنه، فضيّقت عليه، ما اضطره لمغادرة الوطن، حيث انتهى به المطاف في السويد، لتتعدّد مرايا غيابه أكثر.
وربما لن أجد أقوى وأجمل لختام هذه الزاوية من مقولته الرائعة التي أنهى بها مرافعته دفاعاً عن نفسه أمام محكمة أمن الدولة العليا في العام 1993، حيث قال:
(شكراً لأمي التي علّمتني أنّ الحرية التي في داخلنا أقوى من السجن الذي نحن في داخله).
الشاعر السوري فرج بيرقدار في سطور:
ــ شاعر سوري من مواليد حمص في العام 1951.
ــ يحمل إجازة في اللغة العربية وآدابها من جامعة دمشق.
ــ عضو اتحاد الكتاب في السويد حيث يقيم.
ــ قضى أكثر من أربعة عشر عاماً في سجون نظام الأسد على خلفية نشاطه السياسي المعارض لنظام الأسد.
ــ صدر له العديد من المجموعات الشعرية أبرزها: “ما أنت وحدك” عن دار الحقائق في بيروت في العام 1979، “جلسرخي” عن دار الأفق في بيروت في العام 1981، “حمامة مطلقة الجناحين” عن دار مختارات في بيروت في العام 1997، و”تقاسيم آسيوية” عن دار حوران في دمشق في العام 2001 ، و”مرايا الغياب” عن منشورات وزارة الثقافة في دمشق في العام 2005، و”أنقاض” عن دار الجديد في بيروت في العام 2012، و”تشبهُ وردا رجيما” عن دار الغاوون في بيروت في العام 2012، وكتاب “خيانات اللغة والصمت.. تغريبتي في سجون المخابرات السورية” عن دار الجديد في بيروت في العام 2006.
ــ حاز على عدة جوائز عالمية، وترجمت أعماله إلى الكثير من اللغات.
عذراً التعليقات مغلقة