بعيداً عن الأسباب التي دفعت رئيس الحكومة السوريّة المؤقّتة “الدكتور جواد أبو حطب” لتقديم استقالته، أو البحث عن جواب السؤال المطروح عن حقيقة الأمر، هل هي استقالة أم إقالة بطريقة دبلوماسيّة؟ فإنّ الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة اتّخذ قراره بقبول استقالة “أبو حطب” خلال اجتماع الهيئة العامة للائتلاف الوطني، الذي سيعقد يومي التاسع والعاشر من الشهر الجاري.
منذ تولّيه رئاسة الحكومة السوريّة المؤقّتة في شهر أيار/مايو من عام 2016، تبنّى “أبو حطب” رأياً مفاده أن محاولة تنظيم الفصائل المسلّحة على الأرض هي مضيعة للوقت، وستستهلك المفاوضات مع الفصائل في هذا الأمر وقتا وجهداً دون أيّة ثمرة، لذلك كان من وجهة نظره أنّ السعي لتقديم الخدمات المدنيّة وتأسيس مجالس محليّة يكون لها دور فاعل في الشمال السوري، قد يؤدّي لفتح باب تفاوضي مع الفصائل العسكريّة باعتبار أنّه سيمتلك الحاضنة الشعبيّة.
هذا الرأي من الناحية النظريّة صحيح، وقد يكون هو الأفضل، لكن من الناحية العمليّة لا يبدو أنّ “أبو حطب” قد قرأ الواقع بشكل دقيق، سيما أنّه انطلق من اعتقاده أنّ وجود شخص رئيس الحكومة السابق “أحمد طعمة” هو سبب وقف التمويل عنها، لذلك كان مقتنعاً أنّ التمويل الخليجي أو الأوربي سينهال عليه مطراً بمجرّد تسلّمه منصب الرئاسة، فهرع لإطلاق وعود كان مطالَبًا بتنفيذها فيما بعد، كتعيين 50 ألف موظّف في الداخل السوري خلال مئة يوم من تسلّمه المنصب، وتقديم خدمات مدنيّة كتعبيد الطرق ومدّ شبكات الكهرباء والمياه والانترنت، ودعم القطاعين التعليمي والطبي، وغيرها من الخدمات التي تحتاج ميزانيّة دول بفعل التدمير الهائل الذي خلّفه بشار الأسد في تلك المناطق.
لم يدرك “أبو حطب” أنّ وقف التمويل عن الحكومة السوريّة المؤقّتة كان بسبب انتهاء دورها الوظيفي الذي تشكّلت من أجله، أو إن صحّ التعبير فشلها في تأدية هذا الدور، من وجهة نظر المجتمع الدولي، لذلك كان القرار قد اتّخذ بتجميد عملها حتّى توكل إليها مهمّة أخرى من قبل الدول الفاعلة في الملف السوري، وبناء على اعتقاده الخاطئ، شكّل رفض دول الخليج تقديم المال اللازم لتنفيذ مشاريعه صدمة أولى بالنسبة له، لتأتي الصدمة الثانية بوقف تمويل قدره 88 مليون يورو، كان قد تمّ التفاهم على تقديمه كمشاريع في شمال سوريا، خلال زيارته إلى العاصمة البلجيكيّة “بروكسل” في شهر تشرين الثاني/نوفمبر من عام 2016.
حوّل “أبوحطب” استراتيجيّته بعد أن أدرك أسباب وقف التمويل عن الحكومة المؤقّتة، فهرع ليشكّل قوّة شعبيّة ضاغطة من شأنها استقطاب الدول المانحة لتقديم الدعم لحكومته، جاء ذلك بالتزامن مع رغبة تركيّة في توحيد فصائل المعارضة تحت جسم واحد وقيادة واحدة، فكان مشروع “الجيش الوطني” هو المنقذ لحكومته من الانهيار بعد أن ضاقت المجالس المحليّة والمديريّات الخدميّة ذرعاً من الوعود المتكرّرة التي لم تنفّذ الحكومة أيّ منها، فبدأ بجولة مكوكية على جميع الفصائل مستفيداً من الضغوط التركيّة عليهم لتوحيد جهودهم، ليرتكب في 4 سبتمبر من عام 2017 خطأه التاريخي بأن عيّن نفسه وزيراً للدفاع إضافة لمنصبه كرئيس للحكومة السوريّة المؤقّتة، فحمّل نفسه بذلك مسؤوليّة فشل تشكيل “الجيش الوطني” بعد أن تصاعدت حدّة الخلافات بين الفصائل على قيادة الجيش.
كل تلك الأخطاء، وهذا الفشل، مضافاً إليهما عدم رضى شعبي تجاه الحكومة المؤقّتة منذ بدء عملها برئاسة الدكتور “أحمد طعمة”، فضلاً عن رغبة تركيّة في تفعيل دور الحكومة المؤقّتة لتشكيل إدارة مدنيّة موحّدة تشمل كامل مناطق سيطرة المعارضة السوريّة بما فيها محافظة إدلب، كان لزاماً أن يتسلّم رئاسة الحكومة السوريّة شخص مقبول من قبل جميع الأطراف في الداخل السوري بما فيها سلطة الأمر الواقع في إدلب، ومقبول أيضاً لدى الاتّحاد الأوربي والدول الداعمة لمشاريع الإدارات المدنيّة ودعم الاستقرار، وأن يكون له تأثير في شرق الفرات وهذا هو الأهم الذي لا يتوافر في شخص “أبو حطب”.
يبدو أنّ دوراً مهماً ينتظر الحكومة السوريّة المؤقّتة، فوجود حكومة الإنقاذ التي تقدّم خدمات كبيرة في الداخل السوري أكسبها شعبيّة في المناطق التي تعمل بها، إلا أنّها بالمقابل وُصِمت بتبعيّتها المطلقة لهيئة تحرير الشام، مما منح ورقة لروسيا تستعملها خلال المفاوضات حول إدلب، فكان لزاما على الضامن التركي أن يبحث عن طريقة لتفكيك هذه الحكومة أو صهرها ضمن جسم له اعتراف سياسي دولي، وهنا يأتي دور رئيس الحكومة المؤقّتة الذي سيحلّ بدل “أبو حطب”.
أيضاً سيتحمّل رئيس الحكومة السوريّة المؤقّتة القادم مسؤوليّة توحيد فصائل المعارضة السوريّة المسلّحة التي ما زالت تعاني التفكّك -وإن انضمّت شكلياً للجيش الوطني- وهذا سيشكّل تحدّيا كبيراً، فالفصائل غير منسجمة مناطقيّاً ولا إيديولوجياً، وهذا سيجعل من المهمّة شبه مستحيلة إن لم يكن للضامن التركي دور فاعل يبدأ بإقصاء جميع قادة الفصائل عن مراكزهم القياديّة واستقطاب المقاتلين ضمن هذا التشكيل.
كما سيتحمّل رئيس الحكومة القادم مهمّة تأسيس إدارة مدنيّة في كامل المناطق المحرّرة، وهذه المهمّة تأتي في ظلّ صراع واضح تشهده مناطق الشمال السوري، لاسيما بين ريفي حلب الشمالي والغربي، لذلك لابد أن يكون رئيس الحكومة من خارج هاتين المنطقتين، أو متوافق عليه من قبلهما على الأقل، وأيضا مقبول في إدلب وعفرين.
يبقى الهدف الأوّل والأهم والأصعب الذي ستتشكّل من أجله حكومة مؤقّتة جديدة، هو التجهيز لبدء العمل في مناطق شرق الفرات، وملء الفراغ الذي سينجم عن خروج مليشيا “قسد” من هذه المناطق، وهذا الدور لا يمكن أن يؤدّيه سوى شخص على دراية واطلاع كبيرين بطبيعة تلك المنطقة، هذا إن لم يكن له جذور وامتداد فيها.
حتّى اللحظة أمام الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة أربعة مرشّحين يتم البحث فيما بينهم للقيام بتلك المهمّة.
الأول هو عضو الائتلاف الوطني ورئيسه السابق “أنس العبدة” الذي لا يبدو أنّ الحظوظ ستحالفه في الوصول إلى رئاسة الحكومة، فعلى الرغم من قدرته الفائقة على المناورة السياسيّة، والتوفيق بين المتناقضات، والتضحية بالحلفاء في سبيل كسب الخصوم، وهذه ميّزات تؤهّله للوصول إلى ما يريد، إلا أنّه باعتقادي لن يكون الشخص المناسب في هذه المرحلة من وجهة نظر بعض الأطراف الدولية الفاعلة.
المرشّح الثاني هو الأمين العام الحالي للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة “نذير الحكيم” الذي مازال يملك كتلة ضاغطة في الائتلاف الوطني قد تمارس دوراً مهماً في وصوله إلى رئاسة الحكومة المؤقّتة، فضلاً عن امتلاكه القرار المطلق في فيلق الشام العامل بريف حلب الشمالي وبعض مناطق إدلب، إلا أنّ حظوظه ضعيفة بسبب عدم وجود بعد له في شرق الفرات، وعدم امتلاكه الكاريزما المناسبة التي تؤهّله للعمل في تلك المنطقة، لاسيما أنّ تلك المناطق تحمل بعداً عشائريّاً سيكون له دور في إدارة تلك المناطق.
ثالث المرشّحين هو مدير مركز جسور للدراسات “محمّد سرميني” الذي يحظى بقبول لدى جميع الأطراف الدولية الفاعلة، كما يحظى بقبول في إدلب وشرق الفرات، إلا أنّ عقبة النظام الداخلي للائتلاف الوطني ستكون عثرة في وصوله لرئاسة الحكومة المؤقّتة، فالنظام الداخلي ينص على أن لا يقل عمر المرشح لرئاسة الحكومة عن 40 عاماً، وهذا ما قد يؤثر على وصول السرميني لرئاسة الحكومة المؤقّتة.
أمّا المرشّح الرابع فهو عضو الهيئة العليا للمفاوضات السوريّة “عبد الرحمن ددم” وعلى الرغم من أنّه شخص توافقي لدى أغلب الأطراف الدولية وشخوص الائتلاف، إلا أنّني لا أعتقد بوصوله إلى منصب رئيس الحكومة السوريّة المؤقّتة لعدّة أسباب أهمها الصراع السياسي بين الهيئة العليا ومحور أستانا، ولا يمكن أن يدير الحكومة المؤقّتة شخوص ينتمون لمحور جنيف، فشرق الفرات وهو الملف الأهم الذي سيقع على عاتق الحكومة، لن يكون للمملكة العربية السعوديّة أي دور فيه، وبالتالي فإنّ الهيئة العليا للمفاوضات، التي تهيمن عليها المملكة ستكون خارج الحسابات تماماً.
على العموم، فالخيارات مازالت مفتوحة أمام الائتلاف الوطني لاختيار رئيس للحكومة المؤقّتة، والأيام القادمة حبلى بالمفاجآت، وليس مستغرباً أن يتقلّد هذا المنصب شخص يكون خارج الحسابات تماماً، أو سياسي من ذات المنطقة، لديه قبول دولي وعشائري، أو قد يكون أحد عرّابي مجلس العشائر الذي كان شرق الفرات أحد أهم أسباب تشكيله.
عذراً التعليقات مغلقة