تنميط الثورات وأوهام الربيع العربي

عماد غليون28 فبراير 2019آخر تحديث :
تنميط الثورات وأوهام الربيع العربي

ظهر تعبير الربيع العربي مع اندلاع الاحتجاجات في بلدان الربيع العربي انطلاقاً من تونس؛ ثم انتشر تداول المصطلح بشكل واسع في كافة وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي؛ كما أنه لاقى استحسان المعارضين والناشطين كونهم وجدوا فيه إشارة لسلمية الحراك.

لا يُعرف شخص أو جهة ما تقف وراء إطلاق مصطلح الربيع العربي؛ ورغم محاكاة التسمية للثورة البرتقالية في أوكرانيا فإن ذلك لا يكفي للتدليل على وجود جهة واحدة تقف وراء إطلاق التسمية.

يشكل استخدام مصطلح خطراً من خلال قدرته في التأثير المباشر والفعال ودفع الجماهير باتجاهات معدة سلفاً لها كانت قد وضعتها الجهات التي أطلقته والتي تغيب عن الواجهة تماماً عندما تجد من يستلهم رؤيتها وتوجهاتها وينبري للدفاع عنها عن وعي أو بدونه.

تخفي رومانسية شعار الربيع العربي قصوراً واضحاً في فهم طبيعة الأنظمة الديكتاتورية العسكرية العربية؛ وتقع في خطأ مقارنة الواقع العربي مع الحالة الأوكرانية وبين نظام عربي وآخر؛ دون إدراك الفوارق والتفاوت الأوضاع الاجتماعية والسياسية؛ وقد أدى الخلط وعدم التمييز لتكرار نفس طرق العمل واستلهام نفس التجارب وتوقع حصد نفس النتائج دون الوعي بأن الاختلافات الجوهرية تفرض ضرورة التطوير وابتكار وسائل وأهداف تتناسب وظروف كل بلد على حدة.

لا جدال في مشروعية ثورات الشعوب العربية وحقها في تغيير أنظمة حكم عسكرية قمعية مغتصبة للسلطة وثروات ومقدرات البلاد؛ لكن النخبة والجماهير وقعتا معاً في مصيدة شعار يدفع للاعتقاد بسهولة التغيير وإسقاط الأنظمة الحاكمة بمجرد النزول الواسع للشوارع والساحات؛ وقد حدث بالفعل حيث هرب بن علي في تونس ثم تنحى مبارك عن السلطة في مصر؛ وساهم في ترسيخ تلك الرؤية البسيطة الزخم الإعلامي الهائل الذي كان يقدم التشجيع والدعم للاحتجاجات عبر تغطية فعالياتها بشكل كثيف إضافة إلى موقف الغرب الرسمي الداعم لها.

تم تنميط حركات الربيع العربي على شكل احتجاجات شعبية في الساحات والشوارع ضمن أساليب عمل بسيطة مكشوفة ومفتوحة بالكامل؛ الأمر الذي حال دون ظهور هيئات قيادية ميدانية يناط بها مهام تحضير وبرمجة الحراك بما يتناسب مع تطوره، وكذلك عدم ظهور رؤية وطنية شاملة لمرحلة ما بعد إسقاط النظام الافتراضية وكيفية إدارة المرحلة الانتقالية وتجنب الثورات المضادة؛ وأدى ذلك القصور لانتكاس سريع لثورات مصر وتونس وعودة النظام القديم من خلال أجهزة الدولة العميقة؛ بينما تحولت الثورات في ليبيا واليمن وسورية نحو نهايات مأساوية لشعوبها بسبب نشوب حروب ونزاعات داخلية وإقليمية ودولية على أراضيها.

اعتنق ناشطو الثورات بصدق رومانسية شعارات الربيع والياسمين وحلموا بالتغيير والانتقال السلس نحو مجتمعات تعبر عن تطلعاتهم في الحرية والكرامة؛ ودفع بعض الشباب الثائر حياته ثمناً لتقديم الماء والورود لجنود تلك الأنظمة العسكرية ظناً أنها قد تحول دون المواجهة المباشرة معها؛ وقد بدا فيما بعد سطحية ذلك الاعتقاد التي أعاقت التفكير في خيارات واحتمالات بديلة وجعلها تقتصر على عمل مباشر وأني في ملاحقة الأحداث وتطورها والتأثر بها دون امتلاك القدرة المسبقة على توجيهها أو توقعها.

تصف الأنظمة العربية ثورات الربيع العربي بالمؤامرة الخارجية التي تستهدفها؛ وفي الواقع تتحمل تلك الأنظمة وحدها مسؤولية الدمار والخراب الهائل الذي حل ببلدانها بسبب عدم استجابتها لمطالب الشعب المشروعة في استعادة حقوقه وثرواته المغتصبة؛ لكن دور المفكر الصهيوني الفرنسي برنارد ليفي كان مباشراً في تشجيع التدخل الفرنسي لإسقاط نظام القذافي وتداعيات ما حدث بعد ذلك؛ وهو ما يدفع للتساؤل عمن قام بلعب دور ليفي في بلدان الربيع العربي الأخرى والتي يبدو أن “إسرائيل” هي المستفيد الأول من مجريات الأحداث فيها حتى الآن.

يتحمل تنميط ثورات الربيع العربي وتعليبها ضمن أطر وردية مسؤولية كبيرة فيما حصل حيث مكث المحتجون طويلاً في الساحات يرقصون ويغنون دون أن ينتبهوا للتطورات حولهم التي انتقلت من السلمية للعسكرة ثم الفصائلية والتطرف والإرهاب، الأمر الذي فتح الباب أمام التدخلات الخارجية وشكل انتكاسة كبيرة في مسار الثورات.

بعد تجارب طويلة مريرة عانت منها الثورة السورية؛ بدأت تظهر مؤخراً دعوات لإنشاء حركة مقاومة وطنية سرية رغم الظروف الصعبة والمعقدة بفعل تراجع الإمكانيات وخسارة الكثير من الأراضي لصالح نظام الأسد؛ وكان يفترض أن تظهر هكذا دعوات مع بدايات الثورة ضد مؤامرة مدبرة بالفعل لزرع وهم ربيع عربي بإمكانية إسقاط طغم ديكتاتورية بواسطة الرقص والغناء في الساحات بينما لا يمكن إزالتها سوى بثورات عاتية تقتلعها من الجذور.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل