وجُـوه..
الشّاعر محمد المطرود.. جرّح بالذّكريات أُغنيات البارحة
بقلم: سليمان نحيلي
بلغةٍ مفتوحةٍ على شساعة سهول الجزيرة السورية – التي اكتمنت حضارات قديمة أنتجت ما أنتجت من أساطير وتراتيل وحبّ ورافدين يوزعان الحياة والأطيار وسرّ الرِّواء على كل جنبةٍ من جنباتِ الجزيرة – بكل ذلك، وبما أُوتيَ من إحساس مرهفٍ، وقلبٍ يمتحُ من بئر الخؤولة حيث اكتسب ثنائية التكوين الثقافي والبيئي من تمازج أصله العربي الضارب في البداوة وخؤولته المنتمية إلى رفعة الجبال الكردية، يكتب محمد المطرود معتبراً الإنسان والإنسانية مركزاً لكلّ مايكتب.
ففي مجموعته «اسمه أحمد وظلّه النار» يسرد الشاعر والناقد محمد المطرود بلغةٍ باذخةٍ مُحكمةٍ، الوجعَ السوري بطريقةٍ غير مباشرة عبر دلالاتٍ وحوامل فلسفية وتاريخية ودينية عميقة مقترباً في مجمل نصوصه من تخوم السرد الروائي، بحيث تتماهى في أحيانٍ كثيرة المساحة بين السّرد والشعر بشكل واضح، إلا أنه بخبرته واستحكامه المتين بكل أدواته الفنية يفتح على نصه باباً للدهشة والتفاعل الفكري والشعوري.
ولعلّ ميل – ذئب الجنوب كما وصف نفسه به الشاعر – إلى السرد يتماشى ويتعاشق أكثر من القصيدة مع الواقعي والإخباري، ويمتلك القدرة على امتصاص المكان والزمان والأحداث والأشخاص والأسماء، وهي بمجملها تشكل عناصر واقع الوجع السوري المعاصر والتي لاتحفل القصيدة بمراعاتها مثلما يحققه السرد.
والمتتبع لنصوص مجموعاته وموقع القصائد وتتاليها واحدة بعد الأخرى يدرك أن الشاعر يشتغل بذكاءٍ فنيّ عالٍ وبتناغمٍ مدروس بين المضمون والهيكل، فتأتي مجموعاته مُخرجةً إخراجاً فنياً ناجحاً، ففي «اسمه أحمد وظلّه النّار» على سبيل المثال، تشكل قصيدة «فصل العبور» المندرجة تحت عنوان «في مديح الحنين» القسم الأول من المجموعة، نرى أن قصيدة فصل العبور، تشكل فهرساً شعورياً وفكرياً ومضمونياً لقصائد المجموعة التي تليها ليتناغم هذا الفهرس مع الفهرس الهيكلي الذي أَفرد له نهاية المجموعة، ولتلقي هذه القصيدة بظلالها ومضامينها الأساسية على أنحاء المجموعة بشكل عام.
وفي المضمون، تتقاطع مفردة العبور دلالياً مع عبورين هامين تاريخياً ودينياً، الأول هو العبور الكبير لإبراهيم عليه السلام الذي أنقذ البشرية على متن الفلك ومعه من كل المخلوقات زوج إلا السمك، إثر. الطوفان العظيم المعروف، والعبور الآخر هو العبور الصغير الذي أنقذ به موسى عليه السلام قومه من بطش فرعون وجيشه، وفي الصورتين تتجلى فكرة العبور من الموت إلى الحياة بشكلٍ جوهري مكثف.
لكنّ العبور الذي قصده المطرود هو العبور الكبير الذي يتقاطع مع مراد الشاعر في عبوره ومئات الآلاف من وطنه أرض الحرب والموت إلى أرض الأمان لتكون ألمانيا برّه الجديد الآمن، ويطرح المطرود في هذه القصيدة أسئلةً وجوديةً كبرى تتعالقُ مع حادثة العبور النّوحيّ، إذ ما الفائدة من نجاة البشرية مع نوح من الغرق بالماء إذا كان هذا العبور سيفضي بهم إلى برّ النار والحرب والحقد الذي لايقلّ مآلاً وتراجيديةً عن الغرق، تلك الحروب التي أشعلها ما يفترض أنهم أولاد الابن الصالح الناجي لنوح، فماذا أبقينا نحن للابن غير الصالح الذي اعتصم بالجبل ولم يصعد الفلك، يقول:
ليت النّبيّ الذي وشوشهُ الخشبُ وتحوّل فجأةً من كائن رهيفٍ يملك اللغةَ إلى صانعٍ للفلكِ ألّا يحمل ثانيةً زوجين من الإنسان، ما الفائدة من بشر ٍ ينجونَ من الماء والطّمي وتفرّقهم النارُ فيما بعد؟
وهكذا تتوزع هذه النّار عبر أشكالٍ مختلفة على مفاصل قصائد المجموعة كافة.
إنها النار التي تضطرم في روح الشاعر بعد أن وصل العالمَ الآخر، عالم الأمان المأمول، لكن هيهات .. فالنار تلاحقه كظله، ويكفي حرقةً ووجعاً منها تلك النار التي تلتهمه، نار الصفة الجارحة ونار اللغة المختلفة:
في عالمٍ آخر، أكثر ما يفعله لك، يسميكَ: لاجئ
إنها نار الوحدة والوحشة والغربة والانقطاع عن الأهل، نار الحنين والذكريات فهناك:
في البلد الجديد لا أهل لكَ.. سواك …
وهي نار اللاجئ المهاجر وحقيبته التي حمل بها جثته، وترك ظلّه وروحه وعقله هناك في وطنه حيث الحرب دائرة، هي:
نار الحقائب التي كالبلدان لاتتشابهُ إلا في حالتي الخوف والحزن الشديدين.
وهي نار الخسارات التي تحرّق كبد المطرود في «أرض الخسارات» عندما تحوّل النهج الصحيح للحراك الثوري الشعبي في وطنه إلى حروبٍ صغيرة بين أمراء الحرب، الذين التفتوا إلى مصالحهم الشخصية، كحرب الطوائف ذاتَ أندلسٍ غابر، هي نار التوجع على وطنٍ تمزقت أرضه وتنافر بنوهُ فصار الواحد إما قاتلاً أو مقتولاً:
وهو يوم «تمّوز» وقد أرسلته «عشتار» إلى الجحيم
فغابت الخضرة، وبارَ النسل، واشتغل الرَّبْع أمراء حربٍ في حروب القبائل حتى سالَ دم الأخ على نصلِ سيف أخيه.
ومايميز مجمل إبداع الشاعر أنه يواجه القبح بالجمال، حيث يوازي تحولات المشهد الواقعي السوري إلى دموي قاسٍ – حدّ الوحشية في خضمّ الحرب – تحولاتٍ على الصعيد الفني الجمالي في القصيدة، تحولاتٍ يرى من خلالها الخلاص من هذه المآساة بين أخوة الأرض بالحب، الحب مقابل الحرب ،وكأنه يقول ليت هذي الراء تندحر فتصير الحربُ حبّاً
وذلك في تحوّل البشر في وطنه من الحالة الوحشية والعداء إلى حالة الطير الذي يعتبر كنايةً عن السلام والألفة والمحبة والسمو والانطلاق والتجدد فيقول:
الخلاص: في أُناسٍ يتحولون من حيوانات تفهم إلى طيورٍ
غالباً ينتصر فيها العاشق لذاته ويكتب في يومياته:
كنتُ طائراً، ولمْ أكُ وحشاً يأكل
أصدقاءَه ..
كما يدركُ المدققُ في نتاج المطرود نزوعه الواضح إلى توظيف معطيات وقواعد علم النفس في نصوصه ونجاحه في ذلك، وهذا يُعزى إلى سعة ثقافته وتنوعها ومهارته الذهنية والفنية، فالغياب حسب علم النفس يجعلنا ننصرف عن النظر للخصال السيئة في الأشخاص الذين نحبهم و يُسبغُ عليهم صفات جميلة غير موجودة بهم بفعل عامل الشوق، ها هو يترجم هذا المعطى النفسي فنياً:
تَبْهتُ الصورة في الذاكرة
فنرسم الراحلين كما نشتهي
بحيث لانتذكر آثامهم
ولاحروبهم الصغيرة معنا
تلك فضيلة الغياب الوحيدة …
وللشاعر قاموس لغوي خاص به، يفرِق نصوصه عن غيرها لو وضعت أمام المتلقي مغفلة الاسم، فاللغة لديه مضبوطة محكمة ثرية المعاني والدلالات، ينتخبها بعنايةٍ جمّة، وهي لا تعطي المتلقي المعنى جاهزاً بشكل عام، إذ أن نصوصه حسب زعمي تقدّم مستويين من القراءة، مستوىً أولياً ظاهراً مايلبث أن يُحيلكَ إلى مستوىً جوّانيّاً عميق الدلالات والأبعاد، وكمثال على ذلك نقرأ له:
أنتظرُ مالم يُروَ من المرثيات لأقوله، ومالم يكن في الطريق نحو الله والحياة، حتى رأيتني فجأةً الشيطانَ الجديد، مطروداً من جنة أحدٍ ما إلى جحيم أحدٍ ما، ولا أقوى بما ملكتُ قول «أمنَ المنونِ وريبها».
فالمستوى الظاهر من الشاهد هو المتحصل من قصة طرد إبليس من الجنة، ولعلّ الشاعر استفاد من توافق كنيته مع صفة الشيطان المطرود من الجنة، وهنا برأيي يحيلك بالنص إلى المستوى الآخر العميق للقراءة حيث يعقب ذلك تضمينه مطلع قصيدة أبي ذؤيب الهذلي في رثاء أولاده الخمسة الذين فقدهم في سنة واحدة حين قال:
أمنَ المنونِ وريبها تتوجعُ
والدهر ُ ليس بمُعتبٍ من يجزع ُ
قالت أُميمةُ مالجسمكَ شاحباً
منذ ابتذلتَ ومثل ما لكَ ينفعُ
فأجبتها أنْ ما لجسمي أنّه
أودى بنيَّ من البلاد وودّعوا
فالمطرود أحالنا من قصيدته إلى قصيدة الهذلي الرائعة والمؤثرة فيكون بذلك قد حقّقَ إضافة ً تأثيرية ً عالية ً،لعبت دوراً بارزاً في فهم مراد المطرود والوقوع على أحزانه المرافقة لكتابته نصه ، مؤدّاه أن حزنه لوداع صديقه الشاعر الكويتي دخيل الخليفة أشبه بحزن الهذلي على موت أولاده الخمسة، ويا له من حزن يحفر في الروح أخاديد غائرة.
كما تتخلل نصوص الشاعر مفردات بيئته البدوية بشكل ملحوظ (الخيل، الإبل، الدّواب، القهوة، بيت الشَّعر، النّار، الرَّبع، الذئب ..).
وللمطرود مع الذئب حكاية طويلة ودلالات عميقة ورؤى جديدة لافتة، تحتاج أن تُفرد لها دراسات مستقلة، وأكتفي في هذا المقام الإشارة إلى أنه يعتبره قدوته من الجهة التي يعتبره فيها السيد الوفي، القائد الذي يهتمّ اهتماماً بالغاً بأفراد قطيعه.
ويلفت الانتباه في نصوص محمد المطرود أيضاً تناوله مواضيعه من منظور خاص جديد في سعيه لتحريك الساكن، فالنظرة المسلّم بها للقنّاص أنه إنسان احترف القتل عن نية مكثفة وبأعصاب باردة وبطلقة واحدة، إلا أن محمد المطرود تناوله من جهة مختلفة، تناوله كإنسان تائب هجر مهنته ووقع تحت تأثير الندم وتبكيت الضمير وعقدة الذنب والكوابيس، وربما لم يسبقه إلى ذلك أحد في هذه النظرة، لنقرأه معاً في مشهد يخيم فيه الفزع والحزن والندم ، ويفصح أيضاً عن البعد الإنساني لدى المطرود:
القنّاص المنشقُّ حدّثني أنه أصابَ الهدف في العين وبكى
لأنه يرى في المنام آلاف الأعينِ المفقوءَة تحاصر أحلامه
وكما نجح المطرود في استخدام تقنية الومضة الشعرية التي تقوم على الاختزال والإدهاش ،يقول:
لم تكن القارورةُ التي انكسرت
أشاعت العطر؟
الأنثى التي مرّت بالمدينة
أيقظتْ حواس أهلها..
محمد المطرود شاعرٌ لا يمكن تجاوزه، اتفقتَ معه أم اختلفتَ حول الشعر وشؤونه، فشاعريته فائرة، وقصيدته ثرّة المضامين والأجواء والأبعاد والمناخات، لاتكفي هذه الزاوية للإلمام بكامل تحربته، وحسبنا أنّا ألقينا بعض الضوء على تجربته الابداعية.
و الذي يفعله محمد المطرود الآن أنه:
يدفن بيده اليسرى يدهُ اليمنى
حتى لايصفّق من جديد للطغاة
موزّعاً بين هزيمةٍ وبين أُناسٍ توزعوا في أرض الله الواسعة كأنهم ضحايا الحنين حين أخطأتهم النار..
الشاعر محمد المطرود في سطور:
- شاعر وناقد سوري من مواليد العام 1969 في القامشلي بمحافظة الحسكة.
- خريج معهد إعداد المدرسين في الحسكة ودبلوم كلية التربية.
- صدر له في الشعر: “ثمار العاصفة” في العام 1997، و”سيرة بئر” في العام 2005، و “مايقوله الولد الهاذي” في العام 2009، و “أسفل منتصف الحياة” مشترك مع الشاعر أديب حسن محمد في العام 2012، و “اسمه أحمد وظله النار” في العام 2014، و “كتاب أرباب أرضيون” في العام 2019، إضافة إلى كتاب “آلام ذئب الجنوب” في العام 2019، وعدد من المخطوطات.
- ترجمت بعض أعماله إلى الألمانية، وحظيت كتاباته بالعشرات من الدراسات النقدية.
Sorry Comments are closed