ضمن سلسلة “ترجمان” صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب “سورية الأُخرى: صناعة الفن المعارض”، ترجمه إلى العربية حازم نهار، عن كتاب ميريام كوك Dissident Syria، الذي تسلط فيه الضوء على سياسات الأسد التي كانت تتيح أحيانًا التعبير عن المشاعر المناهضة للحكومة من خلال رعاية أعمال بعض الفنانين والكتاب بقصد تحويل نقد الحكومة إلى سياسة رسمية تهدف إلى تنفيس الاحتقان، ما اضطر بعض الفنانين السوريين المعارضين إلى التأرجح بين الرغبة في انتقاد النظام الدكتاتوري بشكل حقيقي والمخاطرة بسلامتهم والخشية من استخدام النظام أعمالهم الفنية في الدعاية الحكومية.
يزخر الكتاب (264 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) بمقابلات أجرتها كوك بين خريف 1995 وربيع 1996، مع فنانين وأدباء سوريين معارضين، راسمة مشهدًا فنيًا سوريًا هيمن عليه عمالقة مثل محمد الماغوط ومحمد ملص ونادية الغزي وكوليت خوري وإلفة الإدلبي وغادة السمان وممدوح عدوان وسعد الله ونوس وغيرهم.
صناعة الفن الحر
يتألف الكتاب من مقدمة المترجم، ومقدمة المؤلفة، وثمانية فصول. في مقدمة للمترجم بعنوان صناعة الفن الحر، يتناول حازم نهار مسائل الفن والحرية، وهدف الفن ووظيفته، والفن والثورة، قبل أن يعرف بالكتاب قائلًا إن مؤلفته تناقش فيه البيئة السياسية الاستبدادية التي تتحكم في الإنتاج الثقافي والفني في سورية، والطرائق التي اعتمدها المثقفون والفنانون في مقاومة السلطة، والمخاطر التي تعرضوا لها. كما تعرض بعض المشكلات الثقافية والفنية في سورية، ولا سيما في ما يتعلق بأدب النساء والتحولات الثقافية والفنية في سورية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، إضافة إلى عرض بعض الأعمال الأدبية والفنية السورية.
في المقدمة، تسرد كوك سيرة مختصرة لتاريخ سورية حافظ الأسد، لتختم قائلةً: “يتحدث هذا الكتاب عن أولئك المعارضين المبدعين الذين قاتلوا من أجل الحرية وحاربوا النفاق. وإني آمل أن يساهم كتابي في إخراج الثقافة السورية من قوقعتها، ونشرها في العالم لمحاربة المفهوم السائد الذي يقول إن الشعب لا يختلف عن حكومته وحاكمه”.
حبيس الوطن
في الفصل الأول، الثقافة هي الحاجة العليا للبشرية، ثلاثة عناوين: كما لو أن…؛ شعارات، شعارات في كل مكان؛ الحرية والديمقراطية. تقول كوك: “يتمثل مفتاح فهم الشعار في التفكير في ما سقط منه: الفاعل والفعل والمفعول به. فالشعار لا يقول من سيفعل، أو ماذا سيفعل، أو لمن سيفعل، في ما يتعلق بهذه الحاجة الإنسانية الأساس. فالفاعل المفقود هو الدولة التي نشرت الشعار في أنحاء البلد… الدولة التي كانت قلقة في شأن هذه الحاجة الكونية. فعندما ترتدي الدولة ثوب الفاعل في الشعار، تصبح الثقافة/العبادة هي الأداة، والشعب هو المفعول به. (…) يكون الافتراض هنا أن الثقافة يجب أن تنمَى لأنها الحاجة العليا للبشرية. وهنا يكمن مربط الأكذوبة، فالافتراض هو الخاطئ لا الشعار؛ أي إن الثقافة يجب أن تُقمع لأنّها على وجه التحديد الحاجة العليا للبشرية، ويُغطّى هذا الكبت بتكراره الدؤوب”.
في الفصل الثاني، أدبنا حبيسُ الوطن، تتحدث كوك عن لقائها بنادية الغزّي وكوليت الخوري. نادية الغزّي هي صاحبة مقولة “إن أدبنا حبيسُ الوطن”. تقول كوك: “كانت هذه أول مرة أسمع فيها هذه المرثية التي ردّدها آخرون طوال فترة إقامتي في سورية. ولهذا السبب كان النقّاد الأجانب مثل جين فونتين لا يعرفون سوى النزر القليل عن الأدب في الداخل، وكانوا يعتقدون تاليًا أن الأدب السوري ما هو إلا استجابة سيئة لقمع لا يميز بين أحد، وبالتالي أدبٌ غاية في البساطة لا يستحق الدراسة”. أما كوليت الخوري، فكانت بحسب كوك فخورة بعلاقتها بحافظ الأسد. تكتب كوك: “لم أستطع تمامًا أن أفهم اعتزازها بحقيقة أنّها كانت المستقلة الوحيدة في البرلمان وسرورها بصداقتها مع حافظ الأسد في الوقت ذاته. عرفت في ما بعد أنه من الطبيعي انتقاد كل شيءٍ في سورية مع إبداء الإعجاب والحب لحافظ الأسد، فقد كان القائد الأجدر، بينما كان أولئك المسؤولون الفاسدون من حوله هم سبب كل خطأ في البلاد”.
انتقاد مكلّف
في الفصل الثالث، لا شيء اسمه أدب النساء، تكتب كوك عن إلفة الإدلبي فتصفها بأنها أم الأدب السوري والثقافة النسائية، والتي ركَزَت على حاجات المرأة النفسية والجسدية، حيث تبرز قصصها رجالًا في مقتبل العمر لا يستطيعون فهم النساء، أو إيجاد سبيل إلى السعادة بسبب قلة خبراتهم وارتباكهم وقلّة حيلتهم. وتكتب عن صالون حنان نجمي الثقافي، وعن صالونات أدبية لنساء سوريات في أواخر القرن التاسع عشر، وعن لقائها بملاحة الخاني، وصداقتها مع نادية خوست التي كانت “أقرب إلى ناشطة شعبيّة؛ فلأعوام احتجّت نادية على غزو المطوّرين العقاريين سوق ساروجة، الحي الذي تدّعي أنه بدأ بالتلاشي بعد انتشار اسمنت المدينة الحديثة واتساعه”، وعن ندوة نسوية أقامتها في المركز الأميركي، احتفالًا بالإنجازات الأدبية للأديبات السوريات.
في الفصل الرابع، انتقاد بالتكليف، تقول كوك إن الدولة السورية غرقت في منتصف التسعينيات في التظاهر باحترامها حقوق الإنسان، وعدم اضطهادها أحدًا، “وكانت كوليت الخوري محقة عندما أخبرتني أن عام 1989 كان عامًا مفصليًا في تاريخ الدولة السورية، حيث دفع انهيار المنظومة الاشتراكية في أوروبا الشرقية إلى إعادة التفكير بشكلٍ كاملٍ في البنية الأيديولوجية التي قامت عليها الدولة منذ عام 1970؛ إذ كيف يمكن اعتماد الأيديولوجيات التي قامت عليها الدولة السوفياتية في نظام حكم أكثر رأسمالية؟”. وتتحدث كوك عن الانتقاد المُكلَّف الذي يعدّ مشروعًا رسميًا متناقضًا لرسم واجهة ديمقراطية، “فكما الانتقاد المرخَص، يتم تشجيع الانتقاد المُكلّف في أوقات الأزمات والاختناقات السياسية والاقتصادية، عندما يرتئي الرئيس أن من الأفضل وجود مستوىً آمن يمكن السيطرة عليه من الاستياء الشعبي، بدلًا من كبت مشاعر الشعب بشكل كامل”.
أحلام معارضة
في الفصل الخامس، عُروض معارِضة، تقول كوك إن التمثيل يؤدي دوره خارج الأيديولوجيا، والفعل المعارض ليس سياسيًا بالضرورة، لذلك لا يحتاج إلى أن يؤدي إلى ممارسات ثورية. ومهمة الصيغة الثورية هي نقل الطاقة المعارِضة والحفاظ عليها كيلا تتبدّد، بل تصبح عوضًا عن ذلك جزءًا من حوار يقوي محرك التغيير. وهنا تتدخل الآليات التأديبية، أو ما سمّاه سعدالله ونوس “الوعي الجاهز” للطبقة الحاكمة. وتتحدث كوك عن مسرحية الغول لممدوح عدوان، متوقفة عند مشهد محاكمة جمال باشا الذي قال: “هل تظنون أنه سيكون من السهل عليكم أن تحاكموا طاغية؟ الطاغية لا يصير طاغية إلا بعد أن يملك عصره ويتمكن منه. لذلك، فإن محاكمة الطاغية محاكمة لعصره الذي استسلم له”.
في الفصل السادس، تصوير أحلام، تتحدث كوك عن فيلمين سوريين استطاعا جذب عددٍ كبيرٍ من الحضور في مهرجان عام 1995، هما فيلم “الكومبارس” لنبيل المالح، والذي فاز بجائزة في عام 1993، وفيلم “الليل” لمحمد ملص، مذكرةً بأن الاهتمام الكثيف بالأفلام السورية كان يناقض الفكرة الشائعة أن الأفلام المحلية غير مرغوب فيها، “ففي الحقيقة أحبَ السوريون أفلامهم الوطنية كثيرًا مقدِّرين سينمائيتها الضيقة، وحبكاتها المجازية، واللغة السياسية التي كانت تظهر في بعض الأحيان، وتؤدي إلى حظر أفلام رعتها الحكومة أو اختفائها”. تقول: “كانت هذه الأفلام التي تموّلها الدولة تبقى في سورية لتعرض في مناسباتٍ خاصة، عندما يكون إظهار الحرية والديمقراطية ضروريًا”.
خَفِّف الوطء
في الفصل السابع، خَفِّف الوطء، تنسب كوك إلى المخرج السوري غسان جباعي قوله: “تحت أسفلت طريق المزة السريع بعشرة أمتار، يوجد السجن الذي أمضيت فيه أيام سجني الأخيرة الذي استمر عشرة أعوام. (…) لا يصدِّقني معظم الأشخاص الذين مشوا على هذا الطريق السريع، والذين كبروا متكيِّفين مع هذه الحياة من دون امتلاك أي رغبةٍ في التفكير؛ إذ لو سألتِ الأشخاص الذين يسيرون على طريق المزة السريع إن كانوا يعرفون أنهم يسيرون على رؤوس رجال معتقلين لا لشيء إلا لأنهم فكّروا بطريقة خاطئة، فلن يصدِّقوكِ”. كذلك تنقل عن إبراهيم صموئيل قصص سجنه الذي دام أربعة أعوام، يقول: “حياة السجن ليست جائرة أكثر من الحياة خارجه. السجن موشوم في روحي لذا فهو يتدفق في دم كل شيء أكتبه. قد تذهب الضربات، لكن ألم الروح يبقى إلى الأبد. سأبقى دائمًا أتوق إلى النور والحب. ولن أتحرّر أبدًا من خوف سَجني مرة أخرى من دون معرفة السبب، أو اللجوء إلى محامٍ، أو قاض، أو محاكمة”.
في الفصل الثامن، الرحيل من دمشق، تروي كوك وقائع يومها الدمشقي الأخير: “كنت متلهفة لقدوم هذا اليوم، وخائفة منه في الوقت نفسه. فلم أكن أعلم كم يمكنني أن أستمر من دون أن أحظى بوقت كافٍ من النوم ليلًا، أو رئتين ممتلئتين بالهواء، مع هذا الإحساس المستمر بالحزن والإحباط”. تتحدث عن لقائها بنظام الذي كان مسجونًا في سجن صيدنايا مع غسان جباعي، ووفيق يوسف، وعن مشاهدتها مع محمد ملص وعمر أميرالاي فيلمهما عن ميشيل سورا الذي خطفته منظمة الجهاد الإسلامي وقتلته في عام 1985.
عذراً التعليقات مغلقة