المحاكم العرفية في الثقافة السورية [1-2]

عمر الشيخ13 فبراير 2019آخر تحديث :
المحاكم العرفية في الثقافة السورية [1-2]

أكاد أجزم تقريباً من خلال جُملة تجارب في العمل الثقافيّ داخل سورية وخارجها بالشراكة مع أبناء البلد ورفاقهم من بلدان وثقافات أخرى، أن “الأمراض” الّتي كانت تعاني منها إدارة الثقافة في سورية، من الإقصاء والعصابيّة والنرجسيّة -ثقافة السلطة طبعاً- تم نقلها إلى الذهنية العاملة في بلدان اللّجوء عبر ممارسات الأفراد، حتّى من أصبح على رأس مطبوعة أو منبر إلكتروني أو مؤسسة لنشر الثقافة.

هي ذاتها، لعنات الاصطياد الشخصيّة، المؤسفة، بقسوتها وتناحرها، أمراض رفض الاندماج المشترك مع الآخر، أيّاً كان مستواه الفكري والمعرفي، وعدم الاكتراث أن من يفعل هذه البذاءات هم أهل الثقافة وحَملتُها!

ثمّة عُصابيّة منفّرة في إطلاق المبادرات الثقافيّة، تلك الّتي نستطيع اعتبارها من المحاولات الأخيرة لإنقاذ الهوية السوريّة.

أجل، رأيتها وسمعتها وأصابتني، أصوات تطلق النار -سلفاً- على من لا يتوافق وإيّاه دون أيّ شكلٍ من أشكال النقد، بل ويجب علينا أن نصفّق لتلك الأصوات بوصفها بارقة أمل وفاتحة عودة للإبداع من خراب اللجوء!

إنّنا نتقاتل من أجل لا شيء، وإنّ كان حقل الثقافة بمحدوديّته ونخبويّته عبر المشهد السّوري مقتصراً على مجموعة من التجارب فيما مضى، لكنّه اليوم تشعّب أكثر وبات لا يفاضل على طبيعة ما يتم إنتاجه من محتوىً ثقافي جاد، بل يَنُظر إلى الآخر-الشريك في الثقافة، من بوابة مبررات شكليّة ومواقف ذاتيّة. بالنتيجة الحالة فرديّة بامتياز، وهذه المشكلة تنطلي على ذهنيّة الإدارة لهؤلاء الأفراد داخل مؤسساتهم ومنابرهم، وما نحصل عليه هو ثقافة متناحرة، حربيّة لا ثقافة سورية فيها بل مناوشاتٍ وحشيّةٍ بربريّة.

وبمعنى أدق هي صراعات غير ثقافيّة، بل مبنيّة على نقد تحقيريّ، بلا معاير مقاربة تحليليّة، يقرأ جدوى المُقترح الفكري، يشرّح الآخر من مبضع “فلان لا يعجب فلان” وهذا يستهتر بمنجز ذاك، بسبب تعليقاته على مواقع التواصل الإلكترونية!

إن عشوائيّة النهوض بالمشهد السّوري الثقافيّ، لا تختلف كثيراً عن تجربة فصائل المعارضة المسلحة الإسلامية والمشبّهة بها، معظمها تعمل لأول مرة في السياسة وأصبحت بالمال السياسي في مراتب وزعامات قبل أن تبني أساساً مشروعاً سياسياً وطنياً مشتركاً مع الآخر-المختلف، لن تتوحد يوماً طالما تعلّمت من جيش الأسد دروساً في الفساد والتفكك والتبعيّة للأشخاص لا للمؤسسة الوطنيّة الواحدة، لأن تلك البلاد الّتي أنجبت هذا الكم الهائل من القتل والعنف والمخبرين، لم تنضج لدى أبنائها أيّة فكرة عن الحوار وثقافة قبول الآخر، من الشّارع وصولاً لأعناق أصحاب القرار، وبالتواتر والانغلاق، انتقل كل هذا البلاء للعقليّة السوريّة الّتي تزعم أنها “مثقفة، مطلعة، قارئة، مبدعة… إلخ”.

ويختصر تعبير المحاكم العرفيّة المُقامة حاليّاً على مذابح الثقافة، رثاءً طويلاً عمّا وصلت إليه الثقافة السوريّة، فهناك تحت وطأة الحرب، ثمة من يعمل بشكل فردي على مشاريع ثقافيّة إبداعيّة لا تخلو من المبادرة والمحاولة والتجريب، وكذلك ربما على امتداد احداثيّات بلدان اللجوء، تسقط الأفكار الّتي تراهن على العداء ضد الآخر-المختلف، وتصبح مساحات الحرية الفكرية ملاذاً للخصومة وتفريغ الشحن الكيديّ من كتّاب القصة القصيرة إلى كتّاب الرواية والشعراء والفنانين والمخرجين… لينعكس غياباً كليّاً لمفاهيم التواصل الإنسانيّ، ولتحلّ قواميس الشتائم والتخوين الفكري والتهم الجاهزة، كلغة بين من يعتبرون أنّهم هربوا من بطش الطغيان إلى فضاء أرحب من أجل نشر الثقافة وقيادة الرأي برقي مترفّع عن تشبيه كتابة الآخرين بـ”التفاهة”!

إنّ التخلي عن أساس الهدوء في مقابلة من لا يتوافق معنا فكريّاً واجتماعيّاً ومزاجيّاً… وتحويل المعارك والجدل إلى ساحة حرب عصابات، إنّما هو تأكيد لظاهرة الثورة الّتي لا تقوم على أخلاق إنسانيّة، فتتحول إلى غابات قتال تنتصر للعنف ولأصحاب المخالب والأذرع الأخطبوطيّة، وتستثمر وظائف العقل وتنوّره لتردم آلاف العقول الأخرى وتجعلها في محرقة كجيوش المليشيات الطائفية والمرتزقة في سورية، لتصفية الحسابات دون أي وعي لخطورة القضاء على هويّة البلاد وتشويه معالمها من أجل البقاء للأقوى (…) فأين الثقافة من كل هذا؟

يُتبع…

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل