وجوه: الشاعر صدّام العبد الله.. قلبه معلقٌ في شوارع القامشلي

سليمان نحيلي11 فبراير 2019آخر تحديث :
سليمان نحيلي

وجُوه.. الشاعر صدّام العبد الله.. قلبه معلقٌ في شوارع القامشلي

بقلم: سليمان نحيلي

كما يقولُ هو، لا تعجبه النصوص الطويلة كنهر الفرات، لكن تعجبه النصوص القصيرة كأنفاس أسماك الفرات المرتبكة.

قصائد الشاعر السوري صدام العبد الله موّالٌ فراتيٌّ قليل الكلمات، طويل الحزن والدمع، تستحضر لك ذاك الشمال السوري الطازج، المترامي الأطراف والضفاف، يُباغتكَ بتفاصيل تحار كيف وقع عليها لدرجةٍ تبلغ فيها حدّ الشهقة.

ويقدّم لك خبز أمه المخبوز على الجمر والصّاج، الذي أعدته كما عادة الريفيات اللواتي يَقُلنَ للشمس صباح الخير، ويخبزنَ على تنورهنَّ الأرضيّ أرغفة الصباح قبل أن تخبز الشمس رغيفها الذهبي في تنور السّماءِ لتوزّعه على الناس.

بين الفرات وحباريه والقامشلي، وبحر اليونان على طول طريق الهجرة الطويل إلى فيينا، نثر صدّام العبدالله قصائده وروداً تفوح بالعطر والحب تردُّ عن روحه هجمات وحشة المنفى، وتطفئُ شيئاً من حنينه:

القصيدةُ شالٌ مثيرٌ على كتف امرأة

أو زهرةٌ في حقل شوك

حين تكتبها

تملؤكَ رائحة العطر…

وأول مايلفتُ الانتباه لدى قراءتك لصدّام، رصده لتلك التفاصيل الدقيقة والمؤلمة والصادمة التي قلّما يتنبّه إليها شاعر، لنقرأَ معاً تلك اللقطة بعين قنّاص جميل يحب الناس ويتألم لأجلهم:

الأطفالُ الذين وُلدوا في السّجن

كانوا يقولون للسّجّان: عمّو ..!

أو في هذه اللقطة المنسية التي رصد فيها ظاهرة نفور أهل بلاد اللجوء من اللاجئين السوريين، في رمزية بسيطة لكنها عميقة للحقيبة التي تحمل معنى بلد اللجوء، وللمفاتيح التي تكتسي معنى الناس فيها:

مشاكلٌ في الحقيبة

مفتاحُ بابِ بيتي في فيينا

ينفرُ من مفتاح بيتنا في القامشلي.. يراهُ لاجئاً

ويستطيع المدقّقُ في الومضات الشعرية التي تشكّل جلَّ نتاج صدّام، أن يرى ميزة خاصة بها حيث تفعل في نفس القارئ مايُحدثه رميُ حصاةٍ في ماء البحيرة الراكدة من دوائر تتسع رويداً.. رويداً، لكنها تختلف عنها في أنها لاتتلاشى، إذ ماتلبث تُجدِّدُ نفسها من الدائرة الأولى النواة:

الأطفال الذين كان أهلُهم

يقولون لهم :

كُلوا حتى تكبروا

هم الذين يموتون الآن َ من الجوع….!!

ويكتب العبدالله بحساسية مرهفة مستخدماً تقنيةً تقوم على تفكيك الموضوع من الداخل ثم إعادة تركيبه عبر علاقات شكلية وشعورية بين المفردات التي تأتي بالرغم من بساطتها عميقة المعنى، بعيدة التأثير، حيث يصور في قصيدته (مفكرة لاجئ سوري) عبوره البحر إلى برّ الأمان مع مئات اللاجئين السوريين على متن قارب مطّاطيّ خفيف محفوفّ بالأمواج ودعاء الأهل،حيث يقول في صورة إنسانية تندغم فيها الأنا بالمجموع الذين يوحدهم خطر الموت غرقاً في البحر:

لستُ وحيداً كما أَدّعي

أنا ملايينُ المهجّرين َ

على هيئة رَجل ..

وربما تبرز هذه الميزة، أقصد التفكيك ثم إعادة التركيب في قصيدته التمثال التدمري الموجود في معرض ما، والمقطوع الرأس والأطراف والعاري الصدر الذي يجعله رمزاً للوطن، ولعلّ المقطع التالي يبدي ذلك:

هذا التمثال من دون رأس

ولايهمّ ذلك، ثمّةَ أصوات كثيرة

مازالت رغم قطع رؤوسها

هذا الوطن حزينٌ وضعيفٌ وقديمٌ، ولا أطراف لهُ..

وطنٌ مشلولٌ

ولكنّ قلبه مازال ينبضُ

هذا التمثال في داخلنا وطنٌ كبير…

والأمّ لدى صدّام تشغل حيزاً واسعاً من روحه ومحصوله الشعري، فهي تدخل في تكوين ذاكرته الصباحية في مرابع وطنه قبل هجرته القسرية، وتزداد تلك الذاكرة تألّقاً وحضوراً بوجوده بعيداً وراء حدودٍ وبحار حتى يرقّ قائلاً:

آهٍ ..ذاكرتي الصّباحيُة ممتلئة

برائحةِ التّنور والسّمنِ العريي

وابتسامة أُمّي …

إنها علاقة متينة متعدّية فهي الأم، وفي المنفى تكتسب بعداً آخر هو الوطن، وهو مرتبط بها حدّ أنه يعرفها من رائحة ثوبها كالطفل الرضيع:

ولو أغمضوا عينيّ

من بين رائحة ألفِ ثوبٍ

أستطيع أن أقولَ

هذه رائحة ثوب أمّي…

لتأخذَ الأُمّ لديه في مخيمات اللجوء وظروفها القاسية المناخية والنفسية معاً دفء وأمان الملاذ، ها هو يناديها في حوارٍ مفترضٍ على لسان أحد أطفال مخيمات اللجوء المتناثرة في الوطن وخارجه، حوار محمول على رهافة الحس المترافق بالمرارة والشعور بالخذلان:

-أمي .. ماذا أفعلُ بالخيمةِ

حين يتراكمُ الثلجُ فوقها؟

– نهزّها كجذعِ نخلةٍ يابني …

ولكن شتّان ما بين نخلة العذراء مريم التي تسّاقطُ بالرّطبِ وأسباب الحياة، وبين خيام اللاجئين التي تسّاقط بالثلج وأسباب الموت!

ولعلّ من المواضيع الهامة لدى شاعرنا، تلك العلاقة الوطيدة بالمكان، حيث وُلدَ ونشأ، ويظهر ذلك في القصائد التي كتبها في منفاه، في تأكيدٍ منه على عمق انتمائه وتعلّقه بالوطن، ويسبغ الشاعر على المكان سمات خاصة ونكهة محلية مشبعة بأطياف الريف ورائحة خبز أمه وهيبة الفرات التي تنحدر منها هيبة أبيه، لقد عشق القامشلي بكل تفاصيلها البسيطة، وعشق حمص التي درس فيها وصدح على منابرها في مهرجاناتها الشعرية والتي لا تقلّ منزلةً عن مدينته القامشلي معبّراً من خلال ذلك عن عشقه وانتمائه لكل سوريا.

لنتلمّس معاً عبر هذه المقاطع منزلة المكان لدى المرهف صدّام إذ يقول و هو في مهب التذكّر:

أكثر ماعلقَ بذاكرتي من سوق القامشلي

بائعات الّلبنِ الرّيفيِّ

يجلسنَ على رصيف مشفى الشفاء…

ثمّ ليبيّنَ لنا أثر ابتعاده عن القامشلي ومدى الخراب الذي تركه في روحه عبر تركيزٍ في المعنى يبدو مدمراً وصادماً ومحزناً، لكنه جميلٌ ولافتٌ ومدهش:

أجملُ المدن تلك التي

تتركُ أثراً في الرّوح

القامشلي مثلاً..

تركتْ في داخلي أثرَ قنبلةٍ فراغية..

ولحمص التي حجّ إليها يوماً وتتبع آثار ديك الجن وورد في بساتينها وتسكّع في ليلها كعاشق حالمٍ حتى الصباح يكتب لها قبل أن ترشقه الحرب بالبعد والحسرة:

في حمص، فيما مضى من سنين..

تسكّعتُ في ليلها

وانسكبتُ منَ الحلم..

وفي شعرهِ مسحة إنسانية نبيلة، حتى لنراه حين يكتب عن أمه حريصاً على مشاعر من فقدوا أمهاتهم في الحرب، خجلاً منهم ليجعل أمه أمّاً لكل الذين بدون أمهات:

حين أكتبُ عن أمي أخجلُ

من أولئك الذين ماتت أمهاتهم

لكني أقولُ في نفسي

هي أمهم أيضاً ..

وهو حين يغني للحبّ له فلسفة خاصة به:

الحبُّ: أن تصافحَ الحياةَ

ولو بيدٍ مبتورة..

وبالرغم من كل المآسي التي تجرعها شعبه إلا أنه يظلّ داعيةً للأمل والفرح:

نحن بحاجة ٍ للفرح

ولاشيء غيره الآن..

بعيداً يعيش شاعرنا اليوم في أوربا وحيداً غريب الوجه واللسان، فهناك :

ما أصعبَ أن تكونَ فكرتك

أكبرَ من لغتكَ..!

وصحيحٌ أنّ مدينة فيينا الشقراء سحرته، ووجد فيها الكثير من الحمام الذي يشبه حمام بلاده والكثير من الأصدقاء، ولكنه بالرغم من ذلك، مازال ضائعاً هناك في شوارع القامشلي:

يُولدُ من جديدٍ

كلّما خرجَ معتقلٌ من السّجن

ويتألم على سورية النائمة التي يسهر الموتُ وحدَه على راحتها..

الشاعر السوري صدام العبد الله

الشاعر صدام العبد الله في سطور:

  • ولد الشاعر صدّام العبد الله في العام 1979، في بلدة تل براك من نواحي الحسكة وسكن القامشلي.
  • يحمل الإجازة في اللغة العربية وآدابها من جامعة حلب. وقد عمل في التدريس.
  • حاز على العديد من الجوائز المحلية منها: جائزة ربيع الشعر، وجائزة شعراء سورية الشباب.
  • تُرجمت العديد من قصائده الى الإيطالية والألمانية.
  • بسبب الحرب تأخر صدور مجموعتيه اللتين تحت الطبع.
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل