عبد الكريم بدرخان يكتب: عن سَقطة المعرّيّ الشهيرة

عبد الكريم بدرخان10 فبراير 2019آخر تحديث :
عبد الكريم بدرخان

ربما لا يوجد أحدٌ منا إلا وسمعَ بيت أبي العلاء المعرّيّ الشهير:

” اثنانِ أهلُ الأرضِ؛ ذو عقلٍ بلا ……….. دينٍ، وآخرُ ديّـنٌ لا عقلَ لَهْ ”

ويمكن للمتلقّي هنا أن يعتبرَ ما سَمعه “قولاً شِعريّـاً”، ويُقيّمه -بالتالي- وفقاً لذائقته الأدبية أو ما يروقُ لهُ الاستعانةُ به من مدارس النقد الأدبي القديم أو الحديث. فالشِعر إبداعٌ وتخييل، ولا نطلبُ منه أن يُطابقَ الواقع أو يُراعي المنطق أو يقول الحقيقة.

أما إذا اعتبرنا هذا القولَ حكمةً أو فكراً أو فلسفةً، فلا بدَّ عندئذٍ من الاستعانة بالمنطق والمحاكمات الفلسفيّة من جهة، وبالتاريخ والتجارب البشرية من الجهة الأخرى. ومن أجل نقد هذه المقولة بأبسط الطُّرق وأيسرها، نلجأ إلى المنطق الاستدلالي الأرسْطي:

” كلُّ ذي عقلٍ بلا دين

نيوتن ذو عقل

نيوتن بلا دين”. (النتيجة= ؟)

أو:

” كلُّ ديّن لا عقلَ له

كيركغارد ديّن

كيركغارد لا عقل له”. (النتيجة= ؟)

وكما هو واضح، فإنّ كلتا المقدمتين تُفضيان إلى نتائج خاطئة.

وأنا هنا لستُ بصددِ نقد أبي العلاء المعري، أو التشكيك في سِعَة عِلْمه وعظمة ذكائه، وخصوصاً إنني أقفُ على بُعد ألف سنةٍ منه، مُزوَّداً بعلُومٍ ووسائلَ تعلُّمٍ لم تكن موجودةً في عصره. بل إنني أنتقدُ المثقفين والمفكّرين العربَ الذين ما زالوا يُكرّرون هذا البيت الشعري حتى اليوم، وكأنه مُسلَّمةٌ من المسلّمات.

وإذا كان المنطقُ الأرسطي صُـوْرياً كما أثبتَ ديكارت الذي كان ذا عقلٍ، ومؤمناً بوجود الإله، في آنٍ معاً. فإننا نلجأ إلى آليّة “التجريد والتعميم” ونطبّقها على مجموعةٍ منتقاةٍ من كبار علماء البشرية، لنرى إن كانوا من ذوي العقول أو من ذوي الدين؟ وهل صحيح أن العقل والدين لا يجتمعان في واحدٍ من أهل الأرض؟!

إذا بدأنا من عند المعلّم الأول أرسطو، نجد أنه قد اعتبرَ اللهَ “المحرّك الأول” للكون وللحياة وما عليها، ووضعَ جملة مفاهيم لتحديد صفات الإله: (المحرّك الأول الذي لا يتحرّك- صورة الصورة- الإله عقل محض- عاقل لذاته ومعقول لذاته…)، وكان على خلافٍ نسبيّ مع أستاذه أفلاطون الذي اعتبرَ اللهَ “الصانع الأول” للكون، أي كان الكونُ فكرةً في ذهن الله ثم نفّذَها. واللهُ في عالم الـمُثُـل الأفلاطوني هو أسمى هذه الـمُثُل؛ أي “الخيـر”. ثم تحوّل مفهومُ الله في الأفلاطونية المحدَثة إلى “اللوغوس”، وكان يُقصد به “الكلمة” و”العقل”- عقل الكون.

في أواخر العصور الوسطى، ظهر تيّار يهدف إلى التوفيق بين الدين والعقل، ويقول بوجود حقيقتين: دينية وعقلية، ويرى ألّا تَعَارُضَ من حيث المبدأ بين الاثنتين، وقد سارَ في هذا التيار توما الإكويني ويوحنا كالْـفِـن وغيرهما. وهكذا وصولاً إلى مؤسّس الفلسفة الحديثة ديكارت، والذي شكّكَ بوجود هذه الثوابت الراسخة الثلاثة: النفْس والله والعالم، ثم عادَ وأثبتَ وجودها تِباعاً، بالاعتماد على منهجه في الاستنتاج العقلي المعروف لاحقاً بالمنهج الديكارتي. بعد ديكارت جاء اسبنوزا الذي عارضَ التيار التوفيقي بين الدين والعقل من أساسه، وقال إن مجال الإيمان مختلف تماماً عن مجال الفلسفة، فالإيمان يتأسّس على الكتب المقدسة والتسليم بالوحي، فهو لا يقوم على الحجج والبراهين المنطقية، وهو لا يُدحَضُ بها كذلك. وعلى نهجه سارَ فولتير وروسُّو.

في قرنِ العقل هذا -السابع عشر- ظهر الفيلسوفُ والفيزيائي والرياضيّ باسكال، والمشهور أيضاً بالـرِّهان الباسكالي. وقد فصلَ باسكال -مثل اسبنوزا- بين مجال الإيمان ومجال العلم، فالإيمانُ يكون بالقلب وأداته الشُّـعُور، أما العلمُ فيكون بالعقل وأداته المناهج العلمية. باسكال شخصياً كان مؤمناً بالله، مثلُه مثل خلَفه الفيزيائي الكبير إسحاق نيوتن، والذي ينسبه البعضُ إلى جماعة دينية سرّية ومتشدّدة هي “فرسان الهيكل”.

كان العقل الأنواري ضدّ العقل القديم، لكنّ العقل القديم ليسَ كلُّه دينياً، ففيه مكوّنات من المنطق والأخلاق والفيزياء والكون والسياسة والقانون… وفي المقابل فإنّ العقل الأنواري الجديد ليسَ كلُّه لا دينياً، ففيه كثير من الدين، ومن إعادة تموضع للدين في الفلسفة والأخلاق والمجال العام.

أما في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فظهر تيّاران واسعان ومتباينان في مسألة الإيمان ووجود الله، الأول هو التيّار المثالي الذي كان متصالحاً مع الإيمان التقليديّ، ويقفُ على رأسه كانط وهيغل. فقد رأى كانط أن العقلَ والعلمَ لا يستطيعان إثباتَ وجود الله، ولا يستطيعان نفيَ وجوده كذلك، لأنه لا يمكنك أن تثبتَ شيئاً في العالم الميتافيزيقي (النومين) بالاعتماد على الأدوات المعرفية التي تكتسبها مِنْ -وتطبّقها في- العالم الظاهري (الفينومين). بعد ذلك يعود كانط إلى الدين ويعتبره حاجةً أساسيّة في علم الأخلاق، فكيفَ سيلتزم الناسُ بالأخلاق من دون فكرة الثواب والعقاب سواءً في الدنيا أو الآخرة؟ ثم يخلُص كانط إلى أن الأخلاق -في ذُروتها- تُقودُ الإنسان إلى الإيمان.

أما هيغل فكان يعتبرُ اللهَ “عقل التاريخ”، وهو المحرّكُ له منذ الأزل وحتى الأبد، وهو الذي سيقودُ التاريخ إلى نهايته المتمثّلة بانتصار الحضارة الجرمانية-المسيحية التي كان هيغل متعصّباً لها أشدّ التعصّب.

في مقابل التيار المثالي، نشأ التيار الماديّ الذي أنكرَ الغيبيّات، واعتبرَ أنّ المادة تتحرك بذاتها ومن دون الحاجة إلى محرّك، استكمالاً لطُروحات اسبنوزا في المادّة، المبنيّة في الأساس على فلسفة ديمقريطس. وقد تأثّر هذا التيار بالثورة التي فجّرتها نظرية التطوّر في منتصَفَ القرن التاسع عشر كذلك، ومن أشهر فلاسفة المادية: فويرباخ وماركس وإنجلز ونيتشه، ثم في القرن العشرين: هايدغر وسارتر. لكن أحداً من هؤلاء الماديين لم ينفِ صفةَ العقل عن المثاليين، بل كانوا -بحكم الزمن- تلامذةً لهم.

وبذكْرِ الأخيرين نعودُ إلى جذور الوجودية في القرن التاسع عشر، لنجد أن مؤسّسها -سورين كيركغارد- لم يكن مؤمناً فحسب، بل متديّناً أيضاً، وقد بنى فلسفته كلَّها على الإيمان. أما الجذر الأدبي للوجودية فيعود إلى دستويفسكي الذي صار مؤمناً بعد نفيه إلى سيبيريا (معه حقّ).

مُـختصَر هذا الاستعراض السريع: هل كان أفلاطون وأرسطو وأفلوطين وتوما الإكويني وديكارت وباسكال ونيوتن وكانط وهيغل وكيركغارد ودستويفسكي بلا عقلٍ؛ لأنهم ذوو دينٍ أو مؤمنون بوجود الإله على الأقلّ؟!

نترك الإجابة لثلّة “التنويريين” الـجُدُد من نجوم الفضائيات وأبطال اليوتيوب، وإلى شُيُوخهم الذين ينظُرون إلى الدِّين وكأنه مجموعةٌ من الخرافات التي يجبُ على الناس تركُها، لكي يصيروا “متنوَّرين” و”متطوّرين” مثلهم. ونحيلُ السؤال ذاته إلى الشاعر السوريّ الكبير الذي يُكرّر بيتَ المعرّي المذكور أعلاه؛ في كلّ حواراته التلفزيونية والإذاعية خلال السنوات الثماني الأخيرة. أي منذُ أن اعتنقَ العلمانية نكايةً بصُعود الإسلام السياسي إبّانَ ثورات الربيع العربي، عِلْماً أنْ لا مشكلة لديه مع الإسلام السياسي حين يكون بثوب “الإمامة”.

ثـمّ بماذا يختلف تكرارُ “التنويريين” لبيت المعرّيّ هذا دون تفكير، عن تكرار السلفيّين -دون تفكير أيضاً- لعباراتٍ مثل: “مَنْ تمنْطَقَ فـتـزَنْدَق”، أو “مَنْ قالَ برأيه في القرآنِ فقد أخطأَ ولو أصاب”؟!

خلاصة القول؛ إنّ الدين-الإيمان لا يُوضَع في مواجهة إقصائية مع العقل-العلم، بحيث نترك للإنسان خياراً واحداً بين اثنين؛ إما أن يأخذ الدين فيترك العلم، أو يأخذ العلم فيترك الدين. وذلك لأنّ مجالَـي الدين والعلم منفصلان عن بعضهما بعضاً. والإيمانُ حالةٌ شعورية أكثر مما هو محاكمة منطقية، والإيمان لا يقومُ بالبرهان العقلي (التجريبي أو الاستنتاجي)، وهو لا يُدحَض بالبرهان العقلي كذلك.

أما البحث في التناقض بين ما قدَّمه الدينُ من طروحات، وما وصلَ إليه العلمُ من حقائق، فهو ليس فكراً ولا اشتغالاً في الفكر، بل هو ضربٌ من اللَّعب الذي يُوهم الشابَّ الـمُتحمِّس بأنه قد صار “مُفكّراً تنويريّـاً”، لا يُشَقُّ لهُ غبار.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل