وجُــوه..
منذ الأشطر الأولى تكتشف أنكَ في حضرة شاعرٍ فذٍّ، واسع الثقافة، عميق الرؤية، في قلب المعاناة تحتدم قصائده، لذلك فهو عندما يكتب لا يفعل شيئاً سوى أنه يَدَعُ جراحه نازفة حتى ينتهي معراج الوحي لديه مستقراً في سدرة القصيدة.
لغته مضبوطةٌ محكمةٌ واثقةُ التنزيل كما لو أننا أمام قطعةٍ فنيةٍ بديعةٍ من الآرابيسك، فكما أن ّكل قطعةٍ صغيرةٍ منها لها مكانها الذي لايستقيم العمل ولايكتمل إلا بوضعها فيه، كذلك موقعُ كل كلمةٍ في القصيدة، لتخرجَ القصيدة لديه تحفةً فنيةً غايةً في الإتقان والجمال، دون أن يتخلّى عن رشاقة اللفظ وتوثّب الخيال وعمق المعنى، لقد شرب عطش رمال البادية وحوّله ماءً يسيل من حروفه.
وهو متمرّدٌ تربض زنوبيا في كل قصيدةٍ من قصائده، مرهف الحسِّ حتى ليعتذرَ عن إثمٍ لم يقترفه:
كما لو أثمتُ اعتذرتُ على موقف الباص من مطرٍ حاقدٍ
في ظهيرة يوم الأحد…
في العام 1979 انفتح المدى على عيني شاعرنا حكمة شافي الأسعد على البادية السورية وأساطير التاريخ.. حيث صنعت زنوبيا مجداً لا يزال خالداً .. وتركت وراءها مدينة تدمر.. وبينما كان شاعرنا يتلمس بخطاه قسوة وحنو الحجارة السود.. تفتحت موهبة شاعرنا في كنف مدينة الشعراء.. حمص.
ويقيم شاعرنا حالياً في تركيا كجزء من مشهد اللجوء السوري المترامي الأصقاع.
وعلى الرغم من نزعته نحو الحزن في شعره إلا أنه يعجّ بالحياة والحب والأمل والحيوية، فالحب لديه أحد عناوين الحياة، بل هو نهر الحياة الهادر:
وأقول الحياة ُ أخصبُ في الحبّ
كأنْ سعادتها فراتٌ ونيلُ
والمتأمل لمجمل نتاج حكمة، يقع ُ على ميزةٍ مهمة هي أنه شاعرٌ رؤيويٌ كشفي، يتجاوز اللحظة الراهنة عبر نبوءات واثقة بأحداث تحصل في المستقبل، محققاً بذلك مقولة: (أنّ الشاعرَ نبيٌّ لم يُؤتَ كتاباً).
وأستشهد في هذاالمقام بقصيدة (ماسقط من تاريخ ابن عساكر) حيث يباغتنا كمنحدرٍ تاريخُ كتابتها عام 2004.
ها هو يتنبّأ بالموت والخراب والتهجير والنزوح الذين سيحلّون بالشام بعد سبع سنوات من كتابة هذه القصيدة،حيث يقول:
في الشام لاترمي حصاكَ على مياهي
عكّر القلقُ الحميمُ… بياضها
ومضى النحيب إلى لهاث القلب
في الشام يصرخ أصدقائي
(انعِ نفسك)
هل عليّ الموت ياشامي
ها إني أشمُ بخوره
حط الغراب على الجنازة
فاعبروا شارع الموتى على عجل
ويقول أيضاً :
ومازالت جهات الشام تأخذني
وتمنحني احتمال الخوف والموت البطيء
وكذلك وبنفس الحدس الرؤيوي يتنبّأُ بدمار وطنه وصيرورته إلى الأعداء الطامعين، موجهاً إصبع الاتهام للطاغية الحاكم:
أنت تريد قلاعاً تتركها أحجاراً فوق الأموات ..
وتريد أميراتٍ تخطفهنَّ لتخلقَ قربى واهمةً مع مدن الأعداء
أتيتَ لتهدم َ ..
وهذا ماجرى من مثل طلب الطاغية ودّ إيران وغيرها.
ومن الأساليب الجمالية التي تكاد لا تخلو منها قصيدة، براعة المبدع الأسعد في توظيف عنصر الإدهاش والمباغتة الجمالية، يقول في قصيدة اللئيم:
وصفتْكَ لئيماً/فكن وصفها مرةً
واختلق موعداً كاذباً مع سواها
وحقّق لها وصفها مرّةً واحدة…
وهذه الإيماضة المباغتة أيضاً:
حين اشتقت ُ إليكِ
كانت الرصاصة قد غيرت اسمي
وقف الشاعر موقفاً مبدئياً أخلاقياً من الاستغلال والاستبداد الذي يمارسه الطغاة والكبّار الذين يبنون أمجادهم وعروشهم على قوت الفقراء ودمائهم، فانبرى يفضحهم ويعرّي حقيقتهم بلا هوادة:
نحن نسقط فوق التراب مآتمَ في لحظة الطحنِ
تطحننا قمحةً..قمحةً ثم تسحب ُفضل سواعدنا
في بناء سنيّكَ
تطحننا لكراسيكَ أوسمةً
ولموتكَ أضرحةً
ولمجدكَ تاج..
وفي مجموعته الأخيرة (نتلمّس الكلمات على الجدران) التي تتألف من سبعة عشر قصيدةً بلاعنوانات، اكتفى الشاعر بترقيمها فقط، ولايبدو مصادفةً ذلك الترقيم المجرد دون عنونةٍ.. لقد تعمّد الشاعر ذلك عن سابق قصدٍ وحزنٍ وإيماء، فلقد كُتبت هذه القصائد في معظمها في العام 2012 في تدمر، بعد أن هجّره جنود جيش الوطن مع أهالي مدينته حمص كرهاً بسبب القصف، حيث تحولت الثورة إلى مرحلة العسكرة واشعل نظام الاستبداد حرباً حقيقية واسعةً ضد الشعب السوري الثائر، فازداد الاعتقال والقتل والقصف والمجازر الجماعية بحق المدنيين العزّل حتى صار الموت مشهداً يومياً معتاداً، وصار البشر الضحايا مجرد أرقام تمرّ على الشريط الأخباري على القنوات التلفزيونية مرور الكرام، ولهذا السبب جعل شاعرنا قصائد هذه المجموعة بلا عناوين.
إن إغفال العناوين جاء مقصوداً، إنها صرخة احتجاج ورفضٍ مدوية لما آل إليه مصير البشر الذين تحولوا في هذه الحرب إلى أرقام بلا أسماء وبلا أيّ معنىً إنساني من اسم وذكريات و أقرباء وأصدقاء وأماكن.. وكذلك أتت قصائده بلا إسم أوعنوان، مرقمةً ترقيما.
هكذا يضع الشاعر القصيدة مقابل الإنسان بما يحملانه من معاني الحياة والمشاعر وباقي التفاصيل الانسانية، كي يخرج بمقولة أن الانسان السوري خاصة في زماننا، زمن الحرب، يمسي رقماً، بل إنه بات أدنى مرحلة من التشيؤ، إذ أنه فيّ التشيؤ يكون للشيء حيّزٌ مادي وكينونة في الواقع، بغض النظر عن انفصالها عن الجانب الإنساني.
ويحاول حكمة شافي الأسعد في مجموعته المذكورة التخفّفَ من موجبات وأعباء القصائد التي كان يكتبها قبل الجرح السوري النازف، لذلك نجد في قصائده تفاصيل عبثية ولكنها لا تأتي هكذا مطلقةً، إنما يوظفها توظيفاً فنياً درامياً جمالياً لافتاً، يقول:
عينٌ واحدةٌ للطفل الصغير
بسبب خللٍ فنيّ
لا أحدَ يلومه بعد الآن
إذا نظر إلى الحياة بعينٍ واحدة
وهو بذلك لايستكين إلى ما أنجزه من قول، إنما يسأل نفسه دائما ماذا بعد؟ فيأتي الجواب تراجبدياً أليماً محمولاً على دفّة الجمال، لنقرأ معاً كيف يستنبط الجمال من الألم:
وراء كل حادثٍ غير عاديّ خلل ٌ فنيّ
ولا أحدَ يستطيع إصلاحه
ما أكثر الخلل في الفن
ما أكثر الفن في الخلل
وهو كشاعرٍ رؤيوي يؤمن بدور الشعر في تغيير الواقع المظلم إلى واقع أفضل وأجمل، إن دور الشعر لديه ليس مواجهة القذيفة بقذيفة وإنما مهمة الشعر تأريخ ذلك وتسطيره منذ انطلاق الرصاصة من فوهة الحقد إلى جسد الضحية حتى النزع الأخير، يقول في هذا المعنى:
الشعر كوخٌ طينيٌّ لا يتحدّى القذيفة
لكنه يحفظ مطلقها ودمارها
ويسجلها في اللغة
الشعر الذي لا يحرّك الكرسي َّ يهزّه
الشعر يبدأُ الطريق من أولها
الشعر يمشي الطريق إلى آخرها
يعلن الشاعر المجرّب في ديوانه نتلمس الكلمات على الجدران عن الإنقلاب الكبير في تجربته على كافة الصعد الشكلية والموضوعية للقصيدة، حيث شرع يكتب قصيدة النثر في تجربة ناجحة وجاذبة، وبتعاملٍ مختلف مع اللغة، وصارت موضوعاته تعتمد على واقع وطنه في هذه الظروف الصعبة، فهو واعٍ لما يعمل، ها هو يعبر عن ذلك بقوله:
كنّا نلمس اللغة برأس إبرة
ونتركها مرفهةً
أما الآن نلقي عليها برميلاً متفجراً
ونكتب القصيدة..
ولعلّ جولة سريعة في نتاج شاعرنا لا تكفي، الأمر الذي سيتسع له المجال في مناسبات أخرى، فما زال لدى حكمة الكثير للاضاءة عليه وإبراز ميزاته.
ويودّع شاعرنا المرهف وطنه الذي أُجبر على مغادرته والشوق يهرس روحه في الخطوات الأخيرة قبل عبوره حدود الشمال إلى تركيا، فيتلفّت إلى الوراء حين غابت مدن وطنه خلف دخان الحرب ويكتب على جدار العودة هذه العبارة:
ليست خيانةً أن أشتاق إليكِ
في هذه اللحظات الأخيرة..
غير ناسٍ أن يرثي شجرة الزنزلخت التي تركها في حمص والتي ماتت لتحميه من الرصاص.
- حكمة شافي الأسعد في سطور:
ــ شاعر سوري من مواليد مدينة تدمر في محافظة حمص في العام 1979.
ــ درس اللغة العربية وآدابها ونال درجة الدكتوراه في الأدب الجاهلي عن رسالته (المأسوي في شعر الجاهليين) التي طبعت ككتاب في دار فضاءات في الأردن.
ــ حقق حضوراً شعرياً لافتاً في الساحة الشعرية السورية والعربية، وفاز بالكثير من الجوائز الأدبية داخل سوريا وخارجها، ومنها: جائزة مسابقة دار سعاد الصباح في الكويت في العام 2007 عن مجموعته (كهف الموتى) وأصدرتها الدار مطبوعة، وكذلك جائزة مسابقة الشارقة فلإبداع العربي في العام 2007 عن مجموعته الشعرية (جمع تكسير الأصابع) وصدرت مطبوعة عن دائرة الثقافة والاعلام في حكومة الشارقة، وأصدر ديواناً آخر بعنوان (نتلمّس الكلمات على الجدران) بنسخة الكترونية في العام 2014، ولديه مخطوطات أخرى قيد النشر.
عذراً التعليقات مغلقة