وجوه: فايز العبّاس.. بالنّاي كانَ انشغالهُ

سليمان نحيلي6 يناير 2019آخر تحديث :
سليمان نحيلي

وُجوه

سليمان نحيلي

بعد الشّتات السّوريّ في كل أصقاع الأرض، استمرّ مبدعو سورية في مواصلة مسيرتهم الإبداعية من منافيهم تجمعهم بواعث الحنين إلى الوطن والأهل، والرغبة في الخلاص من الظلم والقهر والفساد وصولاً إلى سورية التي نحلم.

من هذه الاعتبارات، فقد رأيت أنه من الواجب علينا أن نعيد تسليط الضوء على تلك الوجوه التي غيّبتها المنافي – لكنها لم تزل حاضرةً، تصارع الغياب والظلم بالإبداع، وفيةً لرسالة الفن في النضال والتّغيير – وذلك عبر سلسلةٍ هي أقرب للتعريف بالمبدع ونتاجه منها للبحث الفني والنقدي، مكتفياً بنبذةٍ عن حياة المبدع ونتاجه حسب المتوفر من أعماله على صفحات الفيس بوك، أو مما تيسّر لنا الاطلاع عليه من أعماله، إنها مقاربة فنية لتجربة كلٍّ منهم.

فايز العبّاس.. بالنّاي كانَ انشغالهُ

لا أجافي الحقيقة إن قلتُ، إنّ فايز العبّاس من أكثر الشعراء الذين تجبرني نصوصهم على إعادة قراءتها، لما تحمله من جمالياتٍ مبتكرةٍ، وحسٍّ نبيلٍ، وعواطف فيّاضة، ونضجٍ، ونزعةٍّ واضحةٍ نحو التجريب بذكاءٍ واثق.

فكان ذلك ما أهّلهُ ليسجّل حضوراً لافتاً في الساحة الأدبية محليّاً وعربيّاً.

ولن أُطيلَ في الحديث عنه، بل سأدعه يعرّف عن نفسه بطريقته:

أنا بعضُ احتراقِ الرّوح ِفي جسد الهمومِ

ولوحةٌ وإناءُ

أنا شعلةُ القنديلِ

قطفتها التي تنأى عن الأحلام

حينَ تشاء…

وُلدَ الشاعر فايز أحمد العباس في بلدة اليعربيّة التي تتبع مدينةَ القامشلي في العام 1976.

تخرّج من جامعة حلب مجازاً في اللغة العربية وآدابها، ثم عمل في التدريس في مدارس سورية.

له حضورٌ لافتٌ في العديد من المهرجانات والفعاليات الثقافية في سورية، وهو عضو مؤسس لجماعة (حالة) الثقافية، و(بيت الثقافة العربية) في ألمانيا حيث يقطن الآن.

وقد فاز في كثيرٍ من الجوائز المحليّة والعربيّة ومنها، جائزة الشارقة للإبداع العربي دورة العام 2011 عن مجموعته الشعرية “فليكن موتي سعيداً” وتمّت طباعتها.

ينشط الشاعر فايز العباس في العديد من الفعاليات الشعرية في منفاه في ألمانيا

ولعلّ أول ما يلفت الانتباه في تجربة الشاعر تلك المسحة الإنسانية الخاصة، والإحساس الرقيق، حتى تراهُ قلقاً على الأرض من احتباس المطر، وعلى الوردة من الذبول، وعلى الأشجار من هجرة العصافير، وحتى على الدواب وأقوات البشر.

لنترجم قلقه الإنساني ذاك معاً:

ياغيمُ لا تحجب دموعكَ وانتصر للأرضِ يأكلها الجفافُ

لوردةٍ مأخوذةٍ بسقوطكَ الأبويّ ..

للشجر المفرّغِ من عصافيرِ الصّباح/ لقوتنا

أو للدّوابِ على الأقلِّ ..

وهو الشاعر ذو الرّوح القلقة، المسكون بالغياب والغربة والفقد، ها هو يبوح بما يعانيه: وأسيرُ مكتظّاً بمنفى….

ولذلك فهو يعيش على أمنية العودة بعد أن نهنهتهُ المنافي ومعاقرة الذكريات:

عُد بي وانزع قميص البعدِ

قرّبني

فقد تعبَ التّذكر والتأمل والدليلُ

وهو روحانيّ ملتفتٌ عن الحياة المادية، وهذه جبلّة الشعراء، ويعبّر عن ذلك بقوله:

حسبي وقد شغفت بالرّوح وحدتها

أنّي بصلصالها ما مسّني شغفُ

وكيف لشاعرٍ شغوفٍ بالروح ألا يكون عاشقاً للحرية، حرية أن يكون كالعصفور، يحلّق في السماء، ويغني دون قيود أو سجن:

نحتاج ما يحتاجه العصفور

مساحة للحبِّ

أغنيةً عن الطيران

فلا يصادرُ صوتنا الاسمنتُ

وغاية حلمه:

وطنٌ بحجم قصيدةٍ منثورةٍ

كالوردِ ..

وهو شاعر الأنثى الرّقيق الأنيق، للحبّ لديه طقوسٌ وطباعٌ خاصة، لكنها طباع شاعرٍ يقنع بنصف رغيفٍ، لكن لا يقنعه نصف حبّ، ونصف حضورٍ، ونصف غياب، لنستمع لهذا العاشق الاستثنائي يقول:

أنا عاشقٌ سيءُ الطبع

أُريدكِ كاملة في الحضور..

أريدكِ كاملة في الغياب..

وهو بحسّه كشاعرٍ، يعشق الحرية، وتأبى أخلاقه الظلم والقهر والاستبداد والقتل الذي يمارسهم الطغاة بحق أبناء شعبه، فينتصر لشهداء الحرية بفعل قصف الطغاة لبيوت أهله وأبناء شعبه حيث يؤول البيت قبراً وساكنوه موتى، ليقرأ على أرواحهم الفاتحة والألم يهرس روحه:

نقرأُ الفاتحة أمام قبرٍ كان منزلا

وموتى كانوا ساكنيه

مجموعة “فليكن موتي سعيداً” للشاعر فايز العباس – دائرة الثقافة والاعلام في حكومة الشارقة 2011

ويُعتبر فايز بحقٍ، شاعراً تجريبيّاً ذكيّاً، يشتغل على نصوصه بدأبٍ ماسكاً زمام أدواته الإبداعية غير متنازلٍ عن القيمة الجمالية لها، ضاخّاً فيها كمّاً هائلاً من العواطف التي يعرف كيف يضغطها في رقعةٍ مختزلةٍ من تشكيلٍ لغويٍّ، الإدهاش علامته الفارقة.

وتجريبيته تلك تأتي على صعيد شكل القصيدة، حيث كتب القصيدة العمودية وقصيدة التّفعيلة، وانتقل ليجرّب الكتابة عبر تقنيات قصيدة النثر، فنجح في ذلك، وخاصةً في الومضات الشّعرية.

وعلى صعيد المضمون والمعنى، فهو شاعر الّلقطة المدهشة والصّادمة، شاعر التفاصيل الصغيرة التي لا يلتفت إليها إلا القليل من المبدعين.

لنقرأه معاً وهو يضعنا بمواجهةٍ مباشرةٍ مع الصّدمة، فيباغتنا في هامش الومضة الآتية من خلال الاعتماد على جزئية (العدسة) عدسة آلة التصوير، وعدسة (القناصة).

واحد/إثنان/ثلاثة

(طاخ)…

أقصدُ فلاش.

*يمازح قنّاصٌ أبناءَه، وهو يأخذ لهم صورةً تذكاريّة..

ونقرأ له كذلك:

بابا اليوم سمعت صوت الوحش

(ابني أحمد 4 سنوات في حديثٍ هاتفيٍّ واصفاً صوت القذيفة).

وهو حين (يعلّمنا درساً في الحبّ) تأحذنا الدّهشة حدّ الشّهقة، إذ يقول:

وأنا أُعلّمُكِ الصّيد

أقفُ خلفكِ تماماً

أُساعدكِ بوضع السّهم

أشدُّ معكِ وترَ القوسِ

وأسقطُ مثل طريدة…

وله إدهاشات أخرى منها:

ثوبكِ فنجان قهوةٍ كبير

وأنا أُفكّرُ كيف أكسرهُ

لتندلقي على السّرير..

وفي خضمّ تجريبه يصل شاعرنا إلى أراضٍ بكرٍ ومواقع لم يطأها أحدٌ قبله مع احتفاظه بعنصر الإدهاش.. ها هو يقول:

يُطلقونَ على نشوةِ الأرض اسم زلزال..

أَعِي ذلك تماماً

فيما أفتّشُ عن الكفّ التي داعبََتها ..

وهو حين يذرع هذه المساحات الجديدة، يشتغل بخيالٍ وذاكرةٍ متعدّيةٍ، تتجاوز الراهنَ نحو المستقبل، فهو دائماً يسأل نفسه ماذا بعد؟

وهو السؤال الذي يفتح أمام الشاعر الأفق لاكتشاف الجديد، يقول في ذلك:

قد يكون اسمكِ بالنسبة لهنديٍّ أحمر

الرّيح التي طيّرت الفزّاعاتِ

لتغنّي العصافير..

نادرون هم الشعراء الذين تجاوزوا كون الفزاعة (حاجز خوفٍ) ففعلوا كما العصافير خافوا ورجعوا، أما فايز أراد أن يكتشف الأرض التي ما وراء الفزاعة، فأستلّ ريحاً اقتلعتها ليعبرها ويحلّق في المساحة الجديدة، يغني في سماء الحرية.

وربما لنا مع التجريب لدى فايز وقفة خاصة.. لكنه الآن ربما لا يأبه بأيّ شيءّ سوى أن يتدفّأَ من برد المنافي في شتائه الشمالي البعيد، وقد غدت كلّ أيامه هناك شتاء:

بردُ الشتاءِ مريرةٌ أيامهُ

وجميعُ أيامي

بهنَّ شتاءُ…

وفي لياليه تلك، يُعدُّ أشواقه.. ينتظر قدومَ أحبابه البعيدين، فيمرّ العمر دون أن يأتي أحد:

ويمرُّ العمرُ والمساءُ مرتّبٌ

علَّ الأحبّة يحضرون…

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل