مصطفى عباس – حرية برس
“أشعر بأنني في حلب، وأنني أسرق حلب. أضعها في حضني، وتمد رأسها من حين لآخر، لتقول لباريس: أنا أيضًا مدينة، كنت مكتظة بالبشر والحب قبل أن أصير الآن ركامًا وأنقاضًا ودمًا وكوابيس” يستطيع هذا المقتطف من رواية “مترو حلب” للروائية مها حسن، وصدرت عن دار التنوير عام 2016، يستطيع أن يعبر أيما تعبير عن حالة التيه الكبير الذي يعيشه اللاجئ بين بلده الأصلي، والبلد الذي وصله مكرهاً على اللجوء فيه، فالأحلام دائماً تمزج بين البلد الأصلي والمنفى القسري، فالمترو الباريسي الذي ترتج الأرض تحته، هو كشاحنة محمود الكبيرة في حلب التي تصدر صوتاً قوياً، وتهز الأرض حين تصل، حيث تحل حلب مكان باريس وباريس مكان حلب، ” هذا ليس مرض الزهايمر، فأنا لا أزال شابة على الزهايمر. أسمي مرضي: خلل المنافي”.
ورغم أن المترو والترام واي هما من أبسط وأرخص وسائل النقل إلا أن بلادنا تفتقر لهما، وقد كان الترام موجوداً في حلب ودمشق، منذ ما قبل الاستقلال قبل أن يأتي البعث ويزيله. يعرف الذي جاء من بلد مواصلاته ما قبل بدائية إحساس الضياع والغربة الذي يشعره الغريب عندما يدخل محطات مترو الانفاق، فكل الناس يركضون للحاق بالمترو كي يصلوا في مواعيدهم المحددة، فيركض هو معهم، كنوع من غريزة القطيع دون أن يكون لديه موعد محدد، وأحياناً دون أن يعرف أين هو ذاهب!
صفة اللاجئ
نعم هو شعور الضياع الذي يشعر به من فقد وطنه، واجتث من جذوره ووضع في بلد آخر، لا اللغة لغته والناس لا تشبه ناسه، ولا الطقس يشبه طقسه، إنه كشجرة النخيل التي اقتلعت من أرضها الدافئة، وشمسها المشعة، ووضعت في مكان بارد تمر شهور والشمس خجلى، وإذا مرت فلا تمر إلا على استحياء. “أين نذهب نحن السوريين؟ ما من مكان في العالم يتسع لنا. وحين يحصل ونجد مكاناً نحمل بلدنا معنا، ونقارن تفاصيل الحياة في كل مكان مع حياتنا في سورية، فلا نعرف كيف نعيش.. لا يمكننا التأقلم مع أية حياة. الآن، مجرد أن أحدنا سوري هي تهمة ونبذ مسبق. ثقيلة هي صفة اللاجئ التي تدمغنا..”.
الوطن الضائع
إضافة إلى الضياع، هناك ثلاثة مفاهيم رئيسية أخرى تتناولها رواية مترو حلب هي الوطن والأمومة والتحدي. فالوطن هو الذي حلم أهله بتحسين وضعه وتحويله من مزرعة خاصة لعائلة محددة وزبانيتها إلى وطن للجميع، ولكنه أبى إلا أن يكون مقبرة، لا تدفن فيها الأحلام وحسب، بل حتى الأشخاص، وحتى عندما انتقلت سارة إلى باريس ظلت تحمل رهاب الطائرات، وتحسب أن كل طائرة تحمل براميل متفجرة، وتريد أن ترمي حممها عليها، وكانت تظن أن كل رجال الأمن في العالم هم قساة نزعت الرحمة من قلوبهم، كما هم في سوريا الأسد. فضلاً عن خيبة الأمل من المجتمع الدولي الذي رأى الناس تقتل ولم يحرك ساكناً، وخيبة أمل أخرى من الثوار أنفسهم، فالذي لم يصبح تكفيرياً، ويوزع شهادات الإيمان والكفر، أصبح من ثوار المنفى يريد أن يغير العالم من بعيد، وهو لا يستطيع تغيير نفسه.
الأمومة والوطن
المفهوم الثاني هو الأمومة وهو مرتبط بالوطن في كثير من الأدبيات، وهنا ندخل إلى صلب القصة، فسارة المهندسة المعمارية التي أصبح عمرها ثلاثين عاماً تأتيها دعوة من خالتها ” أمينة دو داماس” النجمة المسرحية المخضرمة المريضة بالسرطان وتشعر بدنو أجلها، التي لم تكن تسمع بها من قبل، كي تزورها في باريس، وعندما تصل إلى باريس تبدأ خيوط القصة المتشابكة بالانسلال خيطاً تلو الآخر، ليتضح أن أمينة أمها الحقيقية، وأن أمها التي اسمها هدهد هي خالتها التي قبلت أن تتزوج وليد زوج اختها أمينة بعد فرار الأخيرة إلى فرنسا، كي تحقق حلمها من عاصمة النور، كممثلة مسرحية، فالفرصة لا تأتي إلا مرة واحدة في العمر، فإن لم يتلقفها المرء فسيقضي عمره نادماً متحسراً. والفن يحتاج إلى تضحية، فضحت بأمومتها إلى حين، ولكنها لم تنساها ولم تتركها رغم مرور ثلاثين سنة عليها.
تحدي النجاح
وهنا ندلف إلى المفهوم الرابع وهو التحدي، فأمينة دو داماس هي التي تركت فلذة كبدها زوجها الذي أحبته في سوريا وهربت، كي تصبح نجمة يشار لها بالبنان، وكان لها ما أرادت، وعندما وصلت ابنتها سارة أليها في باريس أعطتها تسجيلات عن سيرة حياتها كي تدونها في سيرة ذاتية بعد موتها، وكانت التسجيلات ليس اعترافاً بالذنب أو شعوراً بالندم، بل هي تفتخر بكل شيء في حياتها، ولو عادت بها الحياة لفعلت كما فعلت سابقاً، فلقد كانت ابنتها التي تركتها في سوريا دافعها للعمل والإبداع، ولو لم تعمل وتنجز لخسرت الاثنين معاً. “يجب أن أنجح لأبرر لنفسي أن ما فعلته لم يكن إثماً كبيراً، بل هو نموذج لك أولاً ولكثيرات غيرك تمنعهن أوضاعهن الاجتماعية وظروف حياتهن من أحلامهن”.
بالنهاية يكلم سارة أحد الصحفيين كي ترافقه في رحلة الى حلب عبر تركيا، ولكن يبقى الاستقرار هو الهاجس الأول والأخير، “الإقامة والاستقرار ترف لا نملكه نحن أبناء الحرب. نسعى من محطة إلى محطة في هذه المنافي حاملين معنا محطتنا الأساسية”.
* عن الكاتبة
عذراً التعليقات مغلقة