تشمل أزمة المسلسل السوري “باب الحارة” في جزئه الثامن، والذي يعرض على الفضائيات العربية في رمضان الحالي، جل العناصر التي تقوم عليها بنيته العامة، فالتصوير على سبيل المثال دخل في حالة استنساخ نفسه، وكأن هناك مشهدا واحدا طويلا ممتدا على مساحة كل الأجزاء التي صدرت من المسلسل حتى الآن، وهذا المشهد يتم التلاعب به للإيحاء بأنه جديد من خلال تبديل تعاقبه وعرض مواده المحددة والمحدودة.
يتحد المنطق التصويري مع السيناريو، ومع الرسائل السياسية والاجتماعية التي يبثها المسلسل بخفة لافتة، ليقول ببساطة إن هناك زمنا واحدا ووحيدا هو زمن السلطة القائمة، وإن كل محاولة لتغييره أو الاحتجاج عليه إنما هو عمل مرفوض ومدان، وكل الشخصيات التي يضمها المسلسل تعمل في خدمة هذا التوجه، حتى أن البعض منها يستعيد البلاغة اللفظية الشائعة لدى الشخصيات السلطوية والتي تحاول الإيحاء بالعمق والمعرفة الواسعة التي لا تتيسر لعامة الناس.
خطاب ميتافيزيقي
يقول النمس الذي يلعب دوره في المسلسل الممثل مصطفى الخاني للفتاة التي يحاول التقرب منها جملة ميتافيزيقية، لا تتناسب مع واقع الشخصية الجاهلة والمسطحة والخبيثة، حيث يقول “إنتي بأحلامي كل واقعي وبواقعي إنتي أحلامي”، فهل من المتوقع أن تصدر عن هذه الشخصية مثل هذه الجملة المركبة والمعقدة والقريبة إلى الفلسفة، والتي تتناقض تماما مع بنيته التهريجية التي يقدمها المسلسل على طول الخط؟
كل ما نلحظه في المسلسل يجعلنا كمشاهدين نطرح سؤالا عن المصادر التي يقوم عليها السيناريو، أو عن أشكال التأثير التي يخضع لها؛ لا نجد مصدرا يمكن أن يجعل تلك الشخصية تقول ما يقوّلها إياه المسلسل سوى في شكل الخطاب السائد بوسط السلطة السورية، والتي يتبنى المسلسل مفاهيمها، وينقل خطابها ويسرد روايتها للأحداث، ويضحي ليس بالحقائق فحسب، ولكن كذلك بالمستوى الفني وبالبناء الدرامي في سبيل هذا الهدف.
يظهر الحلبي ضمن المسلسل في هيئة الجندي الأحمق الذي يقوم كل الوقت بحركات معتوهة مجاهرا بانتسابه إلى حلب بشكل متكرر، لم يعرض المسلسل صورة جندي معتوه يثير السخرية والاستهزاء في كل تصرفاته، بل عرض صورة الحلبي في هيئة جندي معتوه، لماذا كان الحلبي هو هذا الكائن الأحمق؟ وماذا يقول هذا الخطاب في هذه اللحظة بالتحديد؟ وهل يمكن فصله عن الواقع السوري دون الوقوع في فخ إشاحة النظر المقصودة عن الوقائع؟
لم تكن هذه الصورة تشكل جزءا من اهتمامات المسلسل قبل أن تخرج حلب ضد السلطات القائمة وترفض الخضوع لها، فتشويه صورة الحلبي هو إذن جزء من المعركة التي تشنها السلطات على الحلبيين والتي تسخر لها كل أنواع الأسلحة.
ولعل واحدا من الأسلحة الأكثر فتكا هو سلاح الدراما التي تدخل إلى البيوت في شهر رمضان، حيث يمكن استغلال محمول التسامح الذي يحض عليه مفهوم الصيام في خلق حالة استرخاء عامة عند المتلقي، تسمح بتمرير الرسائل الملغومة بسهولة أكبر، هكذا يمكن للحلبي أن يتحول إلى شخصية تافهة، لأنه خارج على السلطة، ويمكن للجمهور الرمضاني أن يقبل الفكرة، لأنها تعبر في سياق هذا الشهر الذي يحمل خصوصية معينة.
تحقير المرأة
يحرص المسلسل أن يشغل المشاهد بسلسلة من الحوادث المتفرقة ويمرر الرسائل الخطيرة بشكل شبه لصوصي، فالمهندس زهدي الذي يلعب دوره الممثل فادي صبيح، الباحث عن منصب برلماني يحاول العثور على آثار مدفونة في الحارة لسرقتها، ويبني شعبيته من خلال التبرع السخي لبناء الجامع وإظهار التقوى والإيمان، ويظهر زهدي في المسلسل بوصفه حليف المستعمر وربيبه في رسالة تنسب كل الدمار الذي لحق بالآثار السورية إلى التدخل الخارجي، ويسقط عن السلطات الحاكمة هذه التهمة.
تقدَّم المشاهد بسرعة وكأنها من المسلمات التي لا يجوز النقاش في شأنها، وتترك الساحة الدرامية مفتوحة أمام عملية التجحيش التي يقوم بها أبوعصام، والذي يلعب دوره الممثل عباس النوري، خدمة لجاره “أبوبدر” الذي طلق زوجته بالثلاث ولم يعد من الممكن أن تعود إليه، إلاّ بعد القيام بعملية التجحيش التي يوافق عليها أبوعصام بعد ملاحقة مرهقة من جاره النادم “أبوبدر”.
وتمنح العصمة لفوزية الزوجة السابقة لجاره كي تقوم بتطليقه بعد انقضاء ليلة، ولكن المسلسل يعرض لنا تمسك فوزية به وعدم رغبتها في الطلاق منه طمعا بالوجاهة التي يمثلها أبوعصام، والتي من شأنها أن تنقلها من دائرة انعدام المكانة التي تحيا فيها إلى أن تكون على قدم المساواة مع الست أم عصام، التي تلعب دورها الممثلة صباح الجزائري. لقد أبرزت أحداث المسلسل أن المرأة لا تحقق المكانة بنفسها، بل من خلال التصاقها بمصدر المكانة الأساسي، حيث يقدم المسلسل الرجل كمنتج للمكانة، وطموح المرأة يقتصر على محاولة التقرب منه.
يعرض المسلسل أيضا رؤيته للتطرف من خلال شخصية سمعو خادم الجامع المتأثر بشيخ الجامع الذي يخطب محرضا على الشهبندر، وهو ما يثير حفيظة “المعتدلين”، لأن هذه الشخصية لم يصدر منها سوى الخير.
يقدم سياق هذا العمل الدرامي رؤية ترميزية شديدة الوضوح لرؤية النظام السوري للأحداث، حيث يصور التطرف على أنه خرج من الجوامع، وأنه لا يعبر فعلا عن رؤية الناس الحقيقية للحاكم، وأن الاعتدال الذي يمثله ينسجم مع رأي الغالبية العظمى من الناس. طبعا هذا التسطيح لم يعد مقنعا لا للجمهور السوري ولا للجمهور اللبناني، فلم تعد للمسلسل تلك الهالة التي كان يتمتع بها، والتي كانت تحوّل توقيت عرضه إلى حالة عطلة عامة في البلد.
إن الإحصائيات التي نشرت مؤخرا حول نسب المشاهدة التلفزيونية تؤكد أن نسبة مشاهدي المسلسل تكاد لا تلامس حدود الـ6 بالمئة من المشاهدين، وتتفوق عليه مسلسلات لبنانية مثل “مش أنا” و”وين كنتي”. لا يعني ذلك أن المشاهد قد ركن إلى خيارات أكثر نضجا، بقدر ما يعني أن الجمهور الذي كان يعتبر المسلسل يعبر عنه وينسجم مع أفكاره، بات يعتبر ما يرد فيه اختلاقا فظا مشغولا بطريقة رديئة تكذبها وقائع يومية لم يعد بالإمكان تجاهلها.
ربما لو قدم المسلسل قراءة عامة وغير منحازة للواقع السوري لنجح في الاستفادة من القدرات التمثيلية التي لا شك في توفرها عند الكثير من النجوم المشاركين فيه، والذين حشرهم السيناريو والإخراج في مكان ضيق ومنع قدراتهم الفعلية من الظهور، وجعلهم أقرب إلى منظرين سياسيين منحازين من كونهم ممثلين محترفين، حيث لحقت بصورتهم وأدائهم كل عناصر الهشاشة والانحدار التي لحقت بالخطاب السياسي في البلاد التي تحترق، والتي أحرقت السلطة فيها كل شيء حتى الدراما.
* المصدر: “العرب”
Sorry Comments are closed