وصف احتجاجات الستر الصفراء في فرنسا بأزمة رأسمالية جديدة يمكن أن يدرجه البعض في إطار التنظير والأدلجة الفارغة والرغبة في حشر قوالب ماركسية جاهزة لفهم وتفسير ما يجري رغم أن الموضوع شديدة ليس سوى أزمة رأسمالية بستر صفراء.
من الواضح تضافر الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية وراء الاحتجاجات مع تحييد مقصود للأبعاد السياسية وتجاوز الأحزاب والنقابات العمالية لإضفاء طابع عام على الحراك الذي نشب إثر فرض ضرائب جديدة فاقمت من تدهور القدرة الشرائية للفرنسيين وشكلت تهديداً خطيراً لبرامج الرعاية الصحية والاجتماعية.
يبدو أن الرئيس ماكرون اندفع أكثر مما تحتمله قدرة الفرنسيين في تطبيق خططه الإصلاحية دون الاكتراث بتراجع مستوى المعيشة وما يحدثه من خلل بنيوي مباشر في النسيج الاجتماعي وعموده الطبقة الوسطى التي تشكل أساس الاستقرار الاجتماعي؛ ولم يجد ماكرون وهو رجل الاقتصاد سوى فرض مزيد من الضرائب المرهقة لتمويل برامجه.
هناك علاقة طردية بين الإنفاق العام وبرامج الدعم والرعاية مع حجم التحصيل الضريبي الذي يمثل المورد الأساسي للخزينة العامة الذي يتأثر بدوره بنمط النظام الاقتصادي والتغيرات المتسارعة على النشاطات الاقتصادية مع توقف الصناعات التقليدية وتراجع الفعاليات الصغيرة والمتوسطة ونمو اقتصاديات المعرفة والتسوق الالكتروني وتكريس الاقتصادات الريعية التي أدت لتمركز رؤوس الأموال بشكل ضخم يفوق موازنات الدول نفسها؛ وساهم ذلك بارتفاع حاد في معدلات البطالة والفقر.
تعرضت النظم الرأسمالية لأزمات عاصفة متكررة بشكل يكاد يكون دورياً لكنها استطاعت الخروج كل مرة بسلام بما تمتلكه أنظمتها من مرونة بعيداً عن الإيديولوجية الجامدة وقدرتها على ابتكار طرق لمواجهة الظروف والمستجدات؛ بينما أدى جمود الأنظمة الشيوعية وعدم قبولها أو قدرتها على تجديد بناها الاقتصادية والاجتماعية إلى سقوطها في نهاية المطاف؛ وقد ثبت صحة مقولة أن الرأسمالية تجدد نفسها وقد استطاعت بالفعل تجاوز الأزمة المالية العالمية عام 2009 بنجاح.
لضمان الاستقرار الاجتماعي تسعى النظم السياسية والاقتصادية المعاصرة لتوفير الاحتياجات الأساسية من خلال برامج الدعم والرعاية المختلفة التي تحتاج موارد ضخمة ترهق موازنات الدول المعتمدة على ضرائب باهظة تحولت لكابوس يرهق كاهل الفقراء والطبقة الوسطى بالدرجة الأولى.
يطرح المحتجون مطالب شعبية مباشرة دون خلفيات إيديولوجية وقد تلقت دعم اليمين واليسار والنقابات العمالية على السواء؛ ويأتي التردي في مستوى معيشة الفرنسيين بفعل تراكم سياسات سابقة فاشلة جعلت أحد الكتاب يكرس كتاب للبرهنة أن الرئيس الاشتراكي السابق فرانسوا هولاند واليميني الأسبق نيكولا ساركوزي أمضيا عشر سنوات دون إحراز أي تقدم يذكر في التغلب على الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.
يكمن الحل السريع والمباشر للأزمة بإلغاء فوري للضرائب الجديدة وزيادة أساس الرواتب وتعويضات البطالة والمتقاعدين؛ وربما الأهم إجراء إصلاح ضريبي من خلال ربطه بالثروة، وهو ما أعلنه الرئيس ماكرون مع شكوك واسعة حول إمكانية قيام ماكرون بالفعل بفرض ضرائب واسعة على الأغنياء وهو الذي يوصف بأنه رئيس يمثل مصالحهم بعد أن أوصلوه للسلطة؛ وربما بسبب تلك المخاوف يريد المحتجون الاستمرار حتى الحصول على ضمانات كافية.
شوهت الاحتجاجات مظاهرُ التخريب والعنف التي رافقتها وصدم الفرنسيين مشاهد تخريب رمزهم قوس النصر وهو ما أدى لتراجع التأييد الشعبي للحراك؛ ومع بقاء أسباب الاحتجاج ينتظر بروز أزمة سياسية خانقة بعد قرار مشاركة الأحزاب والنقابات العمالية بشكل مباشر؛ وهناك خشية من تكرار أحداث مايو 1968 التي أسقط فيها الفرنسيون الجنرال ديغول.
ليست احتجاجات الستر الصفراء سوى أزمة رأسمالية جديدة وهي لن تكون الأخيرة بطبيعة الحال؛ وبانتظار معرفة كيف ستجد الرأسمالية الحل وتجدد نفسها هذه المرة؛ ويبدو أن ماركس سيبقى حاضراً على الدوام في دعوته لتغيير العالم لكن بدون ماركسية شمولية.
عذراً التعليقات مغلقة