كشفت ثورات الربيع العربي حقيقة الأنظمة الحاكمة العربية وقيامها بدور وظيفي لا وطني في خدمة أهداف خارجية وقبولها بالوصاية مقابل الحماية؛ وساهم في فضح ذلك سعي العديد من الدول الديمقراطية الغربية في تعويم نظام الأسد رغم جرائمه بحق الشعب السوري؛ ثم التراجع ليس فقط عن إسقاط النظام بل حتى عن عملية الانتقال السياسي برمتها؛ وربما يستدعي افتراضاً غريباً يستند لنظرية المؤامرة بوجود تحالف عالمي خفي يجمع أنظمة سياسية مختلفة تتضامن لتأمين حمايتها واستمرارها؛ لكن ذلك يدفع للتساؤل بقوة عن مستقبل حركات الشعوب وطموحاتها في الحرية وهل لا زال ممكناً التخلص من الديكتاتوريات؟ أم أن زمن الثورات الشعبية قد ولى؟
يبدو التاريخ الإنساني مجرد سرد طويل لنضال شعوب مقهورة ضد سلطات مهيمنة سواء في الأنظمة الديمقراطية أو الديكتاتوريات على حد سواء؛ لكن حدة الصراع تختلف حسب نمط الحكم السياسي السائد ومستوى التناقض والصدام بين الطبقات الاجتماعية والاقتصادية.
تفرض الأنظمة الشمولية والديكتاتورية قوانين تعسفية لتكريس هيمنتها وتسلطها؛ ويضعف العنف والترهيب الذي تمارسه من إمكانيات النمو والتطور الاجتماعي بسبب حالة الصراع والاحتقان المستمر والمفتوح؛ بينما تستند النظم الديمقراطية على مبادئ العقد الاجتماعي لجان جاك روسو حيث تنبثق السلطة عن الإرادة الحرة للشعب وتعبر عن الإرادة العامة مع ضمان احترام الحقوق والواجبات بين الحكام والمحكومين؛ وترسخت الديمقراطيات مع اعتماد مبادئ الفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية التي طرحها مونتسيكيو في كتابه روح القوانين.
لكن احتكار السلطة في الديمقراطيات يجري بشكل خفي وتحت غطاء قانوني؛ حيث تتيح الحريات الاقتصادية والليبرالية الواسعة إمكانية ظهور طبقة من كبار أصحاب رؤوس الأموال تتحول لطبقة مهيمنة تسعى بكل الوسائل لضمان نفوذها ومصالحها؛ ومن تلك الوسائل استغلال التطور الهائل في وسائل الإعلام والاتصالات لفرض أساليب مبتكرة في السيطرة؛ وقد كشف ذلك هربرت شيللر في كتابه “المتلاعبون بالعقول” حيث يوجه من خلاله رسالة تنبيه وتحذير للغزو الذي يتعرض له الأفراد والمجتمعات عن طريق وسائل الإعلام التي تقوم بدور فاعل في الدعاية والتضليل الممنهج؛ ويشرح كيف تتحول تلك الوسائل لأداة إخضاع وقهر للجماهير العريضة من خلال الأقلية التي تديرها وتتحكم بالرأي العام بطرق التمويه والخداع والتلاعب؛ وتمثل القوى المهيمنة على وسائل الإعلام الشركات العملاقة ومصالحها.
شرح جورج أورويل بشكل رائع في روايته 1984 طرق الأنظمة الشمولية في الهيمنة والإخضاع؛ حيث يحكم الأخ الأكبر باسم الحزب الحاكم ويبني سلطته على الكذب وتزوير الوقائع والتاريخ بحجة الدفاع عن الوطن ومصالح البروليتاريا؛ ويتحول الحزب مصدراً لرعب دائم حيث تصادر الحرية الشخصية في العلاقات الإنسانية من زواج وعمل وأسرة؛ كما يحصي على الناس تحركاتهم ويحول الناس لمراقبة بعضهم البعض ويعيشوا في دوائر من الخوف والقلق الدائم؛ ويتحكم الحزب بالمجتمع من خلال الشعارات الثلاثة التي يفرض من خلالها القهر والتعذيب والتجهيل: الحرب هي السلم؛ الحرية هي العبودية؛ الجهل هو القوة.
تثور الشعوب عندما يصل القهر حدوده العليا رغم معرفتها أن مصير الثورات محفوف بالمخاطر؛ ويصف جورج أورويل برواية مزرعة الحيوانات كيف تنتفض حيوانات المزرعة ضد سيدها بعد تفاقم نقمتها عليه حيث تقوم بطرده والسيطرة على المزرعة؛ وتستلم الخنازير قيادة معركة الحيوانات رافعة شعارات الإخلاص في العمل والتفاني لإقامة المجتمع الحيواني الجديد الذي تنتفي فيه كل أشكال الظلم والاستغلال كما يسوده الرخاء والعدل؛ لكن تلك الشعارات سرعان ما تحولت إلى سكاكين مسلطة على رقاب الحيوانات؛ حيث تم استعبادها باسم الحرية وسلب حقوقها باسم المساواة وتجويعها باسم الرخاء وسفك دمائها باسم الحياة؛ وهكذا بدأت الثورة بحلم وانتهت بكابوس؛ فهل يريد أورويل توجيه رسالة بأن هذا هو المصير الحتمي للثورات؟ أم أن ذلك هو حال الثورة التي يتم اختراقها أو استغلالها كما في الأنظمة الشمولية.
هناك أحلام واسعة أبداها كثير من الفلاسفة والحكماء على مدى التاريخ بمجتمعات بشرية سعيدة؛ مثل توماس مور في يوتوبيا وأفلاطون في الجمهورية؛ ويستمر الحلم البشري بالحرية ولا يمكن إيقافه.
عذراً التعليقات مغلقة