يصور فيلم “كفرناحوم” حياة الفقر وانسداد الأفق التي يعيشها اللاجئون في أحياء بيروت المعدمة. وقد فاز الفيلم بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان «كان»، كما رُشح مؤخراً لجائزة الأوسكار عن فئة أفضل فيلم بلغة أجنبية.
تدور أحداث فيلم الدراما الواقعية “كفرناحوم” في أحياء بيروت الفقيرة وتحكي عن حياة الطفل زين (12 عاما) الذي يحاول دون جدوى منع تزويج شقيقته الصغرى. “زين لاجئ سوري يعيش في لبنان منذ ثمان سنوات في ظروف صعبة (…) عندما بدأنا التصوير لم يكن يعرف كيف يكتب اسمه. لقد نشأ زين وترعرع في الشوارع”.
يبدأ الفيلم بمشهد في قاعة محكمة حيث يقاضي زين والديه، اللذين أنجبا عدداً كبيراً من الأطفال لأنهما جاءا به إلى الحياة؛ وذلك في حبكة وحيدة ابتكرها صناع الفيلم الذين التزموا بنقل حقائق شهدتها مخرجته، نادين لبكي، وعاشها الكثيرون من أفراد طاقم التمثيل.
الخيوط الفاصلة بين شخصية زين في الحياة الواقعية ودوه في الفيلم متداخلة وغير واضحة، ويعكس الممثلون حيواتهم في الفيلم. وفي هذا السياق قالت المخرجة لبكي في ندوة بداية شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2018، إن ذلك التداخل كان “مقصوداً”، مضيفة أنها شعرت بالمسؤولية على نحو ما؛ “مسؤولية عدم فعل أي شيء (…) أحياناً تكون المشكلة من الكبر بحيث لا نعرف ما الذي يجب فعله إزاءها، فنبقى صامتين”. لم تبق لبكي صامتة، إذ أنها أرادت “أنسنة” مشكلة اللاجئين والمقيمين غير الشرعيين.
ورأى الكاتب والناقد السينمائي اللبناني شفيق طبارة في مقال نشره بموقع “المدن” أن الفيلم “مثالي” و”يلائم” قوالب جمعيات الأمم المتحدة الجاهزة في حملاتها التوعوية عن أطفال العالم الثالث، ويضيف “لا تبدو المخرجة مهتمة بالقصص التي ترويها ولا حتى بالسياق الاجتماعي والمكاني للبلد، بقدر اهتمامها بتحريك عواطف المشاهدين”.
صوت من لا صوت لهم
“تساءلت كيف أشعر لو كنت أنا هو؟ كيف يمكن أن أشعر لو كنت منسياً وغير مرئي مثله؟ لو منحت هذا الطفل صوتاً، ماذا سيقول؟”، تقول المخرجة اللبنانية وتردف أنها قررت إلقاء الضوء على المسألة ودفعها إلى دائرة النقاش العام في لبنان وكل العالم. كانت تحاول فعل شيء ما مع الحكومة اللبنانية لفهم مكامن الخطأ. وتعتقد لبكي أن الفوضى ضاربة أطنابها في لبنان. ومن هنا جاء اسم الفيلم والذي يعني الخراب.
غير أن الكاتب اللبناني والناقد المعروف إلياس خوري وجه نقداً للفيلم في جريدة “القدس العربي” تحت عنوان “كفرناحوم: ميلودراما النهاية السعيدة”. ومع أن خوري امتدح الفيلم، إلا أنه أخذ عليه عدة مآخذ: “نصف الحقيقة أفضل من السكوت الكامل عن المآسي، وهذا قد يكون صحيحاً في العمل السياسي والاجتماعي والخيري، لكنه لا يصحّ في الفن. وهنا تكمن مشكلة الفيلم الأولى، فاختصار المسألة بالدعوى الساذجة التي رفعها زين على أهله لأنهم ينجبون الأولاد، تطرح سؤالا أخلاقياً وسياسياً كبيراً، لأنها تحوّل الفقر إلى خيار جاعلة من البؤس الاجتماعي مسؤولية البائسين (…) نخرج من قاعة ونشعر بأننا أبرياء، صفحتنا بيضاء كصفحة وزير الثقافة وهو يقف للصورة مع لبكي في مهرجان «كان»، ولا نحمل معنا سوى سؤال خاطئ ومضلّل، هو: لماذا ينجب الفقراء الأولاد”.
“حشرات” و”قنابل موقوتة”
المخرجة نادين لبكي نفسها، وهي الأم لطفلين، عاشت الحرب الأهلية اللبنانية وتعرف ماذا تعني الفوضى. وأكدت أنها خلال إعدادها للفيلم تعرفت على أطفال يعيشون في قاع المدينة وعلى هامش المجتمع، لا يعرفون تاريخ ميلادهم، ناهيك عن الاحتفال بذلك اليوم.
يحاول زين محاكمة والديه على إنجابه إلى هذه الحياة. لا يفهم هو والكثيرون من أمثاله أن يولد الطفل ولا يجد من يمنحه الحب أو الطعام. وتقول نادين أنها صدمت بقول البعض إنهم يتمنون الموت على الحياة: “استخدموا عبارات يشبّهون فيها أنفسهم بالحشرات والطفيليات وباللاشيء”.
وتشبه أولئك الأطفال والملايين مثلهم في العالم بالقنابل الموقوتة: “إن لم نفعل شيئاً ستنفجر تلك القنابل في وجوهنا”. وكانت إجابتها على المعضلة بـ “أنسنتها”. وقد فعل ذلك البطل زين على أكمل وجه. “وجدت التمثيل سهلاً. قالت لي نادين أن أكون حزيناً وفعلت ذلك. وقالت لي أن أكون سعيداً وفعلت ذلك أيضاً”، يقول زين بصوته الهادئ.
“ميلودراما النهاية السعيدة”
في أيلول/سبتمبر 2018 انتقل زين وعائلته بفضل المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى النرويج. وعلقت نادين لبكي على ذلك في انستغرام: “لحظات قبل مغادرتنا إلى المطار، رأيته يلقي نظرة الوداع الأخيرة على الحيّ الذي عاش فيه لسنوات. لقد بكى زين (…) وقال إنه سيفتقد أصدقاءه وطيور بيروت وحياته فيها على الرغم من كل الصعوبات التي عايشها فيها”.
يريد زين أن يصبح “ممثلاً” غير أنه يتعين عليه أولاً الدخول إلى المدرسة لتعلم القراءة والكتابة. وتنقل لبكي عنه قوله إنه صار لديه الآن بيت يطل على البحر وسرير بعد أن أمضى حياته كلها ينام على الأرض. وعلى حسابها على أنستغرام كتبت: “لم يكن زين سورياً ولا لبنانياً ولا مسيحياً ولا مسلماً. لقد كان طفلاً دفع ثمن حروبنا السخيفة دون أن يعرف سبب اندلاعها”.
تمنّي المخرجة اللبنانية النفس بأن يمنح الفيلم زين وأمثاله أفقاً جديداً لحياة جديدة. في حالة زين تحققت أمنيتها. وفي اللقطة الأخيرة من الفيلم ابتسم زين للمرة الأولى. وفي الحياة الفعلية يبتسم زين الآن.
غير أن الناقد الياس رأى أن النهاية السعيدة مفتعلة: “نرى العاملة الأثيوبية التي ترحّل إلى بلادها، (لم يتساءل الفيلم عن مشروعية هذا الترحيل)، كما نرى زين خارج السجن وهو يبتسم للكاميرا التي تلتقط صورته، تمهيداً لإصدار هويته اللبنانية. سعادة النهاية هي تبرئة للسلطة ولمجتمع تفترسه العنصرية”.
جدير بالذكر أن مقال الياس خوري المذكور تم حذفه لاحقاً من الموقع الإلكتروني لجريدة “القدس العربي”.
- المصدر: مهاجر نيوز
عذراً التعليقات مغلقة