تبرز قضية خفوت صوت المظاهرات في الداخل كقضية مهمة يجب بحثها والتفكير بأسبابها بشكل عقلاني وعميق بعيداً عن المبررات التي يسوقها البعض من أجل التخفيف من هول أخطاءهم، فنحن ما زلنا ندور في ذات الفلك الذي بدأنا فيه نشاطنا الثوري في 2011، الشعارات والمزاودات وركوب الحركة الجماهيرية من أجل تحقيق أهداف سياسية حزبية ضيقة ضد الخصوم السياسيين.
لا شك أن هناك عوامل مجتمعة أدت لخفوت صوت المظاهرات في الداخل، ويجب بحثها بتأنٍّ ودقة، كي يتم التعامل معها وتجاوزها من أجل عودة الشارع الثائر إلى نشاطه الحقيقي، ولا أجزم أنني أمتلك الحقيقة المطلقة أو أنني قمت ببحث علمي وتبينت الأسباب الحقيقية لغياب التظاهرات، لكن التبريرات التي أطلقت من قبل البعض سخيفة لدرجة لا يمكن تحملها، فلصق التهمة بالسماء والظروف الجوية السيئة محاولة لذر الرماد في العيون، والقول بأن الناس مشغولون بقطاف الزيتون يشبه التبرير السابق، ولا يمكن الركون إلى مثل هذه التبريريات غير المنطقية.
أعتقد أن الإحباط بدأ يتسلل إلى نفوس الناس لأسباب عديدة، منها الصراعات الداخلية بين أفرقاء المعارضة وإطلاق شعارات إسقاط الهيئات السياسية المختلفة من ائتلاف وهيئة تفاوض وخلافه مع أنه من الواجب علينا أن نركز هجومنا على النظام ولدينا من القضايا الكثير الكثير لنعمل عليها، وهذا يذكرني دائماً ببدايات الثورة، حين رفعت القوى الوطنية الديمقراطية شعارات ترفض عسكرة الثورة وأسلمتها وطوئفتها وترفض التدخل العسكري الخارجي الذي كان ينادي فيه البعض، وقامت القوى المقابلة بتخوينها وأطلقت شعارات تزاود عليها بالرغبة في الحفاظ على الشعب ودماءه، وها هي نتائج تلك التصرفات ماثلة أمام أعيننا بعد أن تم تطييف الثورة وعسكرتها وجلب التدخل العسكري الخارجي، مما أدى إلى إبعاد قسم كبير ممن كانوا سيلتحقون في الثورة السورية، ودفع المترددين للابتعاد عنها، طبعاً بالإضافة للدماء التي سالت والملايين الذين هجروا من بيوتهم نازحين في البراري أو لاجئين في البلدان المختلفة يسومونهم سوء التقدير والإهانات والعنصرية.
طبعاً لا أقارن المؤسسات الموجودة حالياً بالأحزاب الوطنية التي رفضت العسكرة والأسلمة والتدخل الخارجي، لكني أقارن الصراعات المتشابهة بين عامي 2011 و2018.
أضف إلى ذلك ما تفعله الفصائل العسكرية المتأسلمة كالنصرة وأشباهها من الفصائل العسكرية من ممارسات تشبه ما يقوم به نظام الأسد وأتباعه، فالسجون لا زالت مملوءة بمخالفيهم من أصحاب الرأي، ولازال أتباع هذا الفصيل أو ذاك القائد خطاً أحمر لا يجرؤ أيّ قاضٍ على محاسبتهم، ولا زالت الفوضى الأمنية والاختطاف سيد الموقف، بينما الفصائل التي يقدر تعداد أفرادها بعشرات الآلاف غير قادرة على حماية المدنيين من الإجرام في مناطق انتشارها، ولا زالت الحرية مفقودة ولا يوجد نشاط حزبي سياسي في تلك المناطق، ولا توجد صحافة حرة، ولا توجد انتخابات حقيقية تنتج مجالس محلية وسياسية تمثل الناس الموجودين في تلك المناطق، وإذا أضفنا أيضاً ملاحقة النشطاء ومضايقتهم واعتقال بعضهم، وتفرق نشطاء التنسيقيات وعدم وجود تنسيق بينهم وبين التجمعات والكتل السياسية وكل واحد منهم يدعي الحق الإلهي وخوف النشطاء من السياسيين كي لا يتم استثمار نشاطهم وإدارتهم للمظاهرات في قضايا حزبية ضيقة، وعدم وجود آلية تنسيق بينهم، كل تلك العوامل مجتمعة وغيرها أدى لتراجع النشاط الثوري في الداخل حسب وجهة نظري.
الصورة ليست قاتمة جداً، فما زال هناك بقعة ضوء في نهاية النفق، ففي الثامن عشر من هذا الشهر سيعقد لقاء تشاوري للقوى السياسية الوطنية الديمقراطية عبر برنامج “الفيوز” يضم أكثر من 38 تجمعاً وحزباً وهيئة سياسية في محاولة لاستشراف آفاق التعاون بينهم، وإذابة جبال الثلوج بينهم، وهو تتويج لسلسلة طويلة من الحوارات واللقاءات الثنائية والمحاولات لجمع الصف وتوحيد الكلمة، ورغم أن هناك بعض القوى التي رفضت المشاركة انطلاقا من نرجسيتها والأنا الخاصة بها، إلا أنني أعتقد أن استمرار الحوار معها كفيل بتخفيف مخاوفها ومشاركتها في اللقاءات التالية وصولاً للتفاهم، وإيجاد مؤسسة تجمع وتنسق جهودهم جميعاً لخدمة الثورة وأهدافها في الانتقال من نظام مستبد قاتل إلى نظام مدني ديمقراطي تعددي.
عذراً التعليقات مغلقة