يحرص النّظام السّوري على جعل الوجوه الّتي تمثله في وسائل الإعلام أو المحافل الدولية، ثابتة ومحدودة المعرفة، إذ أن ذلك يمثّل حقيقة الأرضية الشعبيّة المتمسّكة بهذه الشكل من أشكال الحُكم، ولو شعرت أيّة نواة أمنيّة في المؤسسات “الرسمية” أن أحداً لديه شِبْهُ توجّهٍ مُغاير قد يلوّث مُحيطهُ بالمعرفة والحقائق الواقعية، كانت تقضي عليه إمّا بتسريحه أو نقله إلى مواقع متدنية من مستواه الوظيفي أو تهديده بالموت بأعمال “إرهابيّة”!
منذ بداية تسلّط هذا البنية الأمنيّة في سورية، تلك المتعلمة في أروقة “الغيستابو” النازية، منذ أكثر من نصف قرن، ولدت لدى الهيئات العامّة الخاضعة للحكومة، عناصر تعرف بـ “الرقابة الداخلية” ومهمتها الظاهرة مُحاسبة من يخالف الأنظمة الداخلية للمؤسسات، إلا أن جوهر تأسيسها قائم على قياس الالتزام “بمحرمات الحريّة” من النّقد والسخريّة وتناول المسؤولين وحتى رأس النظام، وانتقل ذلك على كلّ مساحات التعبير عن الرأي الموضوعة تحت يد أناسٍ موثوقين من الولاء الدموي للنظام في كلّ مفاصل تلك الهيئات، ليكون أمامنا مثلاً مدير عام لديه مدير مكتب وسكرتارية ونائب، وكل من هم أدنى منه في مكتبه، يعملون شرطة سريّة للمراقبة وبمعرفة المدير نفسه، والثمن “الآمن” لبقائه هو مُزايدته المُستمرة “بالتّشبيح” ونشر هذا التّوجه بين الموظفين في مؤسسته! وما إن يُشعر هؤلاء بوجود أي نَفَس غير مرغوب به حتّى يطيحوا برأس المدير، خصوصاً في الوقت الحالي، لأنّ فيما ما مضى كان المدير يختفي على مبدأ “انتحر برصاصتين” كما باقي المسؤولين الّذين يخدمون في مُحركات الفساد المُسمّاة “مؤسسات عامة” ويكشف أمرهم أو يسرقون زيادة عن مخصصاتهم، فيتم التخلص منهم مباشرة.
وهنا يأتي من يقول “وكيف تتهم بالفساد، هل هناك دليل؟” طبعاً لن يكون هناك دليل بوجود هكذا إعلام، جيناته الباطنيّة تنبض خوفاً من الحقيقة، ويمنع كتّاباً ووجوهاً إعلاميّة فيما لو تناولت قضايا تفضح صفقات بسيطة من سرقة المال العام والتدجين السياسي، فكيف به أن يصحح مساراً سياسياً لمجتمع قائم على الخوف من الحقيقة والدفاع عن المجرم تجنباً لبطشه؟
أغلب من يصل لمناصب مُعينة في بنية النظام السّوري يكون قد أقسم بشكل أو بآخر على حماية الفساد، لأن المنظومة بمجملها سوف تهتز فيما لو كان أحدهم “ساذجاً” وعمل بالعدل الاجتماعي، بالتالي ربّما أنبل المؤسسات المعنية بحضارة البلاد تلوّثت حتى النخاع بهؤلاء فلم يعد أحد يصدق إعلام النظام، وكل من بقي فيه يعمل هناك، يكون قد وافق ضمنياً على أن “الحقيقة” هي ما تنشره الشاشة “الرسميّة”، وهنا أتذكّر مقولة لأحد الكتّاب هي: “لا تصدق شيئاً حتى يتم تكذيبه رسمياً” وبناءً عليه يمكن اعتبار كل هيئات الصحف والأقنية تستمد مصادرها ومعلومتها من مخازن العُتمة لدى النظام، ومعظم النِتاج “المزعوم” من مؤسسات الثقافة هو حاصل التقارير الأمنية “النظيفة” عن الوجوه الّتي يريد النظام وغلمانه إظهارها واستثمارها، وفيما بعد يحترق أغلبها أثناء محاولة إشعال ضوء في “التّعتيم البعثي” للحقيقة، وإذا شك أحد بذلك يحضرونه موجوداً إلى الشاشة للاستنطاق بما يريدون ثم يقصونه للأبد، وإذ فكر بالبوح دفاعاً عن الحقيقة كان الثمن حياته!
إنّ العماء الذي فرضته القبضة الأمنية في سورية على المعرفة والإعلام، أنتج لدينا قطعاناً كبيرة من عملاء الكذب الّذي تزدهر بهم منابر السلطة المتواضعة، ونظراً لخطورة القول والكتابة والصورة التلفزيونية ومختلف وسائل الإعلام، فقد حرصت تلك المنظومة إلى الركون المتين للتخلف وصناعة شخصيات ساذجة على نمط “خالد العبود وشريف شحادة وسواهم..” لها فقط الحق في “النقد المزعوم” للسلطة بحيث يكون موجّهاً تحت سقف الحذاء العسكري، إضافة إلى العمل الطائفي الواضح في مفاصل تلك المنظومة والذي يؤكد كيف تعمل قرارات التعيينات على التوازن لصالح فئة واحدة تتباهى بالذلّ وهي الّتي تسبّح باسم الطاغية ليلاً نهاراً، هؤلاء فقط هم من سيقضون على هذا النظام عاجلاً أم آجلاً عبر أدوات التعتيم إياها التي تقلب الحق باطلاً وتظهر المجرم كأنه بطل “بعثى” عندما سيتنافسون على السلطة ويصبحون خطراً مغفلاً، منوّماً بحب الأسد!
عذراً التعليقات مغلقة