تكتب إحدى العجائز العاملات في “ثقافة” السّلطة، منشوراً ساخراً من رحيل المفكر والباحث الفلسطيني السوري “سلامة كيلة” الّذي توفي مؤخراً في عمّان، وتشتمُ هذه المرأة باللغة السّوقيّة المعهودة لجماعة النّظام، منتقمة من الفكر التنويري المتحرر من العنف، والنقد السّياسي الواضح والمباشر الذي كان يوجّهه الرّاحل ضد ماكينة الطّغيان والاجرام الّتي أنجبت هذا “السّوسو” كما يلقبونها. ثم يشارك المنشور إيّاه عشرات الأشخاص ممّن يدّعون العمل في الحقل الثقافيّ من داخل البلاد وخارجها، بل ويتبارون على استخدام أقذر أشكال الكلام من أجل تقديم قرابين للنظام وإمكانية العودة إلى “حضن” الأسد ساعة يريد هؤلاء، أو ربّما هي جيناتهم بالعبوديّة الّتي اعتادوا على أمانها وتغطيس عقولهم مهما تنوّرت وتعلّمت من اللّغات والثقافات، بأحذية حاشية القاتل الأكبر!
على مدار السّنوات الماضية، لم تستطع الثّقافة في سورية أن تنحاز للناس بالقدر الّذي تشعرهم به بأهمية وجودها كأساس اجتماعي للمطالبة بالحقوق وفهم الواجبات والدفاع عن الكرامة وصدّ السّياسة الموجّهة لخدمة الحاكم، ويأتي مكوّن ضعفها القديم منذ تحوّلت إلى سلسلة مؤسسات تأخذ تعليماتها من مرجعيّة الحزب، وتجعل من ميزانيتها وتظاهراتها “الفكريّة” لأبناء ذاك الحزب، لتكون تحت “شعار” يقترحه ثلّة من الرّعاع، أولئك الّذين أوصلوا نماذج منحولة من الشّباب إلى شاشة التّلفزيون “الرسمي” ليخلطوا حابل الشّعر بنابل مسابقات معرض دمشق الدولي الساذجة، حيث استلم تلفزيون معارض تلك النماذج لتكون مادة تهكّم وسخرية منذ أيام، ويبقى الشّعار المشترك هنا “هيا نصطاد في عَبَط البلاد” حسب ما توجّه ماليّة هذه السّلطة أو فرمانات ذاك الجهاز الاستخباراتيّ. وكلّ ذلك قادم من الثّقافة الّتي تجذّرت في الفكر السّوري منذ نصف قرن، خصوصاً هؤلاء الّذين تصيبه بالصدفة أضواء الشّهرة وسهولة الصعود، فتتوجّه لهم السّلطة بكامل ثقلها الأمنيّ وتطالبهم بالتّأكيد المستمر على “الصّمود” أي الصمت المطلق، و “السّيادة” أي التقسيم الاجباري حسب الولاءات، ويبقى لهؤلاء أن يطلقوا نيران كلامهم وضغائنهم وعُصابهم على من يشتركون معهم في المشاغل الاجتماعيّة والمدنيّة، تلك الّتي تُسمّى: ثقافة!
ما إنّ تبلورت ظواهر التّطرّف والأسلمة والعسكرة في الكارثة السّوريّة، حتّى اصطفّ عدد كبير من هؤلاء ضدّ الاحتجاجات العفويّة على اعتبار أنّها حبوب هلوسة وأصابع خارجية تلك الّتي تجعل النّاس تهتف ضدّ الذلّ والطّغيان، إذ كنّا نشاهد في غُرف هؤلاء الشخصيّة على الدوام صوراً تدل على الحلم بثورة ما لبلادنا، صور لـ”شي غيفارا” و “فلاديمير لينين” و “شيخ امام” و “جورج أورويل”، كانوا يتبادلون الكتب التي تحكي عن الثّورات بمختلف أشكالها وجنونها وأخطائها ونتائجها حول العالم، إنّما عندما حان الحديث عن الثّورة السّوريّة، راحوا يشكلون لها كياناً إعلاميّاً وتنظيريّاً منحولاً من معجم الأسد، لتصبح ثورة الشّعب “مؤامرة كونيّة” ضدّ استقرار سوريّة الّتي دمّرها أصلاً من يمتلك سلاح الطيران والصواريخ الفراغية والكيماوية وسجون المتطرفين والجنود المدجّجين بالحقد على أبناء جلدتهم لأنهم قالوا “حريّة” ثم تحوّل أغلبهم إلى جنودٍ لدويلات سوريّة!
والآن ألم يكن كلّ ذلك لأن أحد أهمّ أبواب التّنوير الفكريّ كانت تحت حذاء السّلطة ومخالب ساستها وعقول قتلتها؟ ألم تتحول مفاهيم العمل الثقافيّ إلى المعابد الدينية والكتب الكثيرة الهاربة من التّاريخ إلى تزوير الحقائق؟
ألم يذهب معظم المال العام للعسكر وأبناء العسكر وتفرعاته لتصبح بلادنا مطيعة بفضل سلطة الحديد والنار والجواسيس؟
لقد صدمني مشهد قراءة منشورات لأناس على قدر كبير من الثّقافة والعمل الأدبيّ في التّرجمة والشّعر وفنون كتابيّة أخرى -حسب ما رأينا- حين تحوّلت لغتهم في النقد وتناول الوقائع إلى لغة الفِرق الحزبيّة البعثيّة المهيمنة على تربية المدارس والجامعات ومؤسسات “الدولة” ومعظم ما يسمّى سوري في الداخل الجغرافيّ! لماذا لا يعمل هؤلاء بهدوء يليق بقدسيّة الدّماء السّوريّة التي أغرقت تاريخ البلاد منذ سبع سنوات من أجل الحريّة والخلاص؟
لماذا لا يبحثون عن الإنسان السّوري المفقود في معمعة الصراعات الدوليّة ويكونون شركاءً لحلم الحريّة بالطريقة الّتي يتوافقون عليها بتفاهم… بكرامة وصدق؟
لماذا لا يتولّى هؤلاء مهمّة تصحيح المسار ويتركون الشّارع يذهب إلى الدّين والمتطرفين والأجسام السّياسيّة المصنّعة بمشاركة دول المنطقة بعد أن فقدت أي تمثيل جديّ على الأرض؟
ببساطة لأنهم برأيي كانوا ولا يزالون يمثّلون ويعملون على نشر ثقافة القتل وشرعنة أدواته!
عذراً التعليقات مغلقة