وليد أبو همام – حرية برس:
خرج أبو محمد مع زوجته وأولاده الستة في رحلة ليست كأي رحلة عادية، بل كانت تحولاً فاصلاً في حياتهم، والتي كانوا راضين عنها رغم قساوتها وشدة مصاعبها.
رحلة النزوح التي أجبرت عائلة أبو محمد إلى ترك بيته وأرضه وأهله وجميع ذكرياته ليعيش من جديد غربة تحمل في طياتها الكثير من الأوجاع والكثير من الأمل بأن الحال لن يدوم ولابد أن يكون خلف كل عسرٍ يسر، إلى أن حط رحاله في الشمال السوري، بدأت الحياة بكل ما تحمله من هموم ومصاعب تتنافس أيها يحطم الرجل أكثر، إلا أن أبو محمد واجهها بالصبر وأمله بأن الله لابد كافيه شرور الحياة.
بدأت قصة أبو محمد و صراعه مع الحياة عندما رزق بطفل منذ أحد عشر عاماً أسماه ’’عمر‘‘، لم يكن أول أبنائه ولكنه كان أكثرهم تأثيراً بأهله وسبباً في ابتلائهم، كان هذا الطفل طبيعياً ولا يشكو شيئاً، حتى بدأ في المشي إذ لاحظ والداه أن في مشيته أمراً غير طبيعياً، حيث كان لا يستطيع أن يدوس بكامل قدمه وإنما فقط على أصابعه، وكان لابد من عرضه على الطبيب لتكون الصدمة غير متوقعة عندما أخبرهم الطبيب بأن طفلهم يعاني من قصر في أوتار قدميه.
وقع الخبر على مسمع والديه كالصاعقة ولم يتمالك كل منهما نفسه، وبدأت الأم بالبكاء والأب يحاول أن يلملم نفسه والدموع تنهمر من عينيه، محاولاً سؤال الطبيب عن العلاج، إلا أن الآخر كان جوابه بأن العلاج ممكن غير أن تكلفته كبيرة.
لم يكن يهتم أبو محمد بتكلفة العلاج بقدر ما كان يهمه أن يسمع أن هناك إمكانية لشفاء ولده، إلا أن أحلامه في علاجه تكسرت عند أول باب مشفى يطرقه، ولم يكن يتخيل الرقم الذي سيكون بديلاً عن شفاء طفله، لكنه لم يسلم نفسه لليأس وجال في عدة محافظات محاولاً إيجاد بؤرة ضوء تمكنه من تخفيف عذاب ولده ومن ثم عذاب أمه.
انقضت عدة شهور والحال لم يتغير إلا أن أبو محمد لم يستطع أن يتوقف عن السؤال والمحاولة وهو في مواجهة دائمة مع سبب عذابه، ومع انشقاقه في بداية الثورة وخضوعه للحصار في ريف حمص الشمالي لم يعد في أولوياته أن يعالج ولده فقد كان مجرد تأمين لقمة العيش أكبر همومه، وكان عمر يكبر أمامه محاولاً المشي بصعوبة على رؤوس أصابعه، فيما أن عدم وجود أطباء مختصين ومشافي جعله يترك التفكير بإمكانية العلاج.
مضت عدة سنوات في ظل الحصار كان أبو محمد قد حصل على عمل بسيط يكفيه حاجته، ثم رزق بطفلة شغلتهم قليلاً عن التفكير بقصة عمر التي أصبحوا عاجزين أمامها وما كاد أن يمر عامان على ولادة عفراء حتى بدأت مخاوف والديها بالاستيقاظ من جديد فقد لاحظا عليها تأخرها في المشي ثم عدم قدرتها على الوقوف على قدميها، وهنا بدأت المخاوف تأكل الوالدين وعادت بهم الذاكرة إلى ذاك اليوم الذي عرفوا فيه بمرض عمر فما كان منهما إلا الإسراع إلى الطبيب للإطمئنان على حالتها.
وفي لحظة الارتقاب تلك والطفلة بين يدي الطبيب كانت عيون والديها تراقب وجهه لعل فيه ما يطفئ النار في داخلهما وما إن انتهى من فحصها حتى بدأت الأم بالبكاء وكأن قلبها أخبرها بالنتيجة، وصرخ بها زوجها عله يسمع من الطبيب ما يسره إلا أن الطبيب حاول تبسيط الأمر ولكن لم يعد ينفع شيئاً، سقط أبو محمد على الكرسي محاولاً إخفاء دموعه لكن الموقف كان أقوى منه فقد أصبح الآن وجعه مضاعفاً، فكلاهما يعانيان من ذات المرض، حتى أصبح عقله عاجزاً عن التفكير بأي شيء إلا تفكيره بعجزه عن معالجة طفليه، وأن ما يتعلق بطفلته عفراء كان واضحاً ففي ظل الحصار لا سبيل للعلاج بأي شكل من الأشكال.
مرّت سنوات الحصار قاسية على العائلة، ثم جاء يوم الخروج من الحصار مكرهين إلى مكان قد يكون أسوء بكثير من الذي كانوا فيه، والتي لا تملك ما يعينها على غربتها وحطت رحالها في الشمال السوري ليصطدم بحقيقة أن أي حركة تستوجب دفع الأموال، التي لا يملكونها، لكن أبو محمد كان همه هو أن يعالج طفليه في تركيا بعد أن خرج من الحصار، حيث حاول الحصول على موافقة لنقلهما إلى تركيا ولكنه لم يستطع بحجة أن حالتهما لا تستدعي النقل.
بدأ الأمل يتضاءل عند الأب ولكنه بقي عليه أن يحاول في المشافي الموجودة في الشمال، فكان فرحه كبيراً وعاد إليه الأمل عندما أخبره أحد الأطباء أن هناك إمكانية كبيرة لإجراء عملية تطويل لأوتار الأقدام في أحد المشافي مجاناً، ومع أن القرار كان صعباً وخاصةً في مثل هذه الحالات والتي لا يضمن شفاؤها كاملاً.
قرر أبو محمد إجراء هذه العملية لولده عمر ومنذ أكثر من شهر تم إجراء العملية الجراحية وما يزال حتى الآن ينتظر نتائجها حتى يطمئن على حاله فما زال لديه طفلة أخرى مصيرها متعلق بنتائج جراحة أخيها، فالأمل ما زال موجوداً لديه ولو أنه قد خبئ في وقت من الأوقات إلا أنه لم ينطفئ وأصبح بإمكانه أن يحلم برؤية طفليه يمشون كباقي الأطفال.
Sorry Comments are closed