حكايات مافيا الثقافة في “المترجم الخائن” للأديب فواز حداد

فريق التحرير15 سبتمبر 2018آخر تحديث :

نزار غالب فليحان

هي رواية الإشكال والمشاكسة، رواية الحوار والتفكر، رواية الهواجس التي تعتمل في نفوس المبدعين من كتاب ومترجمين وكذا في نفوس القراء والنقاد.

يرتفع إيقاع الرواية منذ عنوانها، العنوان الذي سيبقى حاضراً في ذهن ومخيلة القارئ حتى الصفحة الأخيرة، حيث تزخر الرواية بالحوار الذي يندرج في مسارين أساسيين:

المسار الأول:

قضية وفاء المترجم للنص الذي يترجمه من عدمه، قضية التزام المترجم بالحكاية والسرد من عدمه، قضية اعتبار الترجمة ضرباً من ضروب الإبداع لا يقل عن إبداع الروائي أو اعتبارها مهنة لا تتجاوز نقل نص من لغة إلى لغة ثانية بشكل ميليمتري، قضية اعتبار الفعل خيانةً حال تجاوز النص المترجَم عبر حرية تصرف المترجِم في تقديم وجهة نظره الخاصة بالنص المترجَم من خلال الحكاية والسرد وبناء الشخصيات والخطوط الدرامية للنص وصولاً حتى إلى التصرف بنهايته.

المسار الثاني:

يعرض الكاتب عفن الشارع الثقافي ومافياويته ومحسوبياته وشللياته وخطورته حد ارتباطه بأجهزة أمنية يستطيع من خلالها إقصاء كل من لا يروق له حال عجزه عن القضاء عليه بأسلحة من بيئة الثقافة والإبداع، ويرصد القضاء على كتاب واعدين كان بالإمكان الاستفادة من إبداعاتهم، والإعلاء من شأن كتاب محسوبين على السلطة، أو يمكن تدجينهم لتطويعهم كأبواق عند الحاجة.

بنى فواز حداد شخصيات الرواية على مستويين، الأول واقعي أبطاله من لحم ودم والثاني متخيل عبر خلق أبطال بأسماء وهمية فرضتها حكاية البطل الرئيسي ووضعه الحرج الذي فرض غيابه القسري عن الواقع وحضوره من خلال شخوص بناها في الخيال، ودارت بينها كل الحوارات التي أراد الكاتب تضمينها الرواية.

غَلَّف فواز حداد بروايته (المترجم الخائن) أكثر من رواية في أكثر من مناسبة خلال سرد الرواية الأصلية التي عرضت معاناة بطلها المترجم حامد سليم من تهميش ومحاربة مافيا شارع الثقافة لأنه يعمد في ترجمته للروايات الأجنبية إلى التصرف في أحداثها وبنيتها الدرامية وطريقة عرض شخصياتها، وربما نهاية الرواية حتى، الأمر الذي لا يروق لشريف حسني الصحفي المتحذلق المؤثر في الوسط الثقافي الذي يهاجم المترجِمَ حد نعته بالخائن للأمانة الأدبية وللثقافة، والوشاية به لأحد فروع الأمن حال محاولته الرد بمقال أراد نشره، ولن ينفع إصرار حامد على نشر المقال فيما بعد حيث أن معتقل سابق نصحه بالعدول عن النشر خشية الاعتقال.

وعدا حكايا فرعية كثيرة، ربما نستطيع رصد بعض الحكايات الأساسية التي كان لا بد – وفق وجهة نظر الكاتب – من سوقها كي تكتمل الصورة وتتضح الرؤية فيما يخص الرواية الأصلية:

الحكاية الأولى:

محمود الرجل الملثم الذي عرض على حامد أن يخلصه من الأديب شريف حسني الذي يهدد حياته المهنية والإبداعية لقاء مبلغ من المال اكتشف حامد نهاية الأمر أنه – أي المبلغ – لا يساوي ثمن علبة مكافحة حشرات، يعطي حامد الرجل الملثم المبلغ الزهيد ليسد حاجته لإطعام أولاده، ويظهر محمود في مرحلة متقدمة من الرواية حيث يزور حامد وينام في بيته هرباً من ملاحقة الشرطة، وسيظهر في نهاية الرواية عندما يقرر حامد أن يستعين به للتخلص من آخر المستبدين به (الفاروط) لكنه يعلم من زوجته أنه – أي محمود – خرج ولم يعد.

قبل ذلك وفي بداية الرواية تشاء الصدف أن يقع حكيم نافع المدرس الجامعي والمستشار لأحد دور الترجمة والنشر بورطة أدت إلى ابتزازه من قبل طالبة جامعية لم ينقذه منها سوى (محمود) ، و ذلك عندما ذهب إليها (وهو الدميم المخيف) وهددها فظنت أنه مغتصبها فأعطته التسجيلات التي هددت بها المستشار، وكان أن طلب لقاء إنقاذه للمستشار ضمان عمل للمترجم حامد ليرد الجميل له.

الحكاية الثانية:

سامي الصديق القديم الذي ترك طريق العلم وراح يبحث عن مهنة أو أي عمل يمكنه من الحياة، صار ميَسِّراً للمعاملات، خبيراً في دهاليز الحكومة العفنة المليئة بالرشوة والفساد، أسس شركة وصار ثرياً، سيلجأ إليه حامد ليخلصه من مأزق الإقصاء و التهميش، وسيرفض سامي مساعدته لأنه لا يحب الخوض في عراك مع الصحفيين والمثقفين، غير أن حامد يلجأ إليه لكي يوجد له عملاً عند أحد مكاتب الترجمة المجاورة لمكتبه الجديد الذي يسهل من خلاله أصعب معاملات الدولة عبر الرشاوى والهدايا والمحسوبيات.

يعود سامي ثانية إلى مسرح الأحداث عندما يقصده حامد للتحري عن الكاتب (سميح حمدي) الذي تم إقصاؤه من قبل مافيا الثقافة والأدب بعد أن برز بعمله الروائي الأول.

الحكاية الثالثة:

برز سميح حمدي عندما أصدر روايته الأولى وكاد أن يذيع صيته لولا أن (الجماعة) أو (مافيا الثقافة) وهي زمرة مهيمنة على الشارع الثقافي ترفع وتخفض من شأن من تشاء، وتقتل من تشاء بأن تقصيه وتبعده عن ساحة الإبداع، انزوى سميح تحت قوة التهديد والاعتقال وربما القتل، يتحرى سامي عن سميح، ويتمكن من معرفة بيته، يزوره ويخبر حامد بذلك، يضرب حامد موعداً مع سميح الذي يلقاه خاج المنزل خشية عيون المخبرين، يتفاعل الحوار بينهما حَدَّ محاولة سميح الهرب من حامد بعد أن تراءى له أن المخبرين بدأوا بالتوافد إلى المكان، لكن عكازه وجسده المتهالك عجزا عن ذلك، يسقط سميح، يرتطم رأسه بالأرض ويودع الحياة تاركاً خلفه روايته التي تجاوز عدد صفحاتها عدة آلاف والتي أوصى أخته بحرقها بعد وفاته، مات سميح وبقي رماد روايته.

الحكاية الرابعة:

ليلى شكران ابنة سوق ساروجة الحي الذي نشأ فيه حامد والتي أحبها لكن احتراق محل والدها أجبر أسرتها على ترك الحي والسكن في مخيم اليرموك لتعشق فدائياً فلسطينياً وتهرب معه للزواج في لبنان ثم التنقل معه في بلاد المنافي واللجوء حتى يقتل برصاصة ارتدت من حائط أطلقها صديقه بعد شجار عقائدي. فتعود إلى دمشق حيث بيتها وغرفتها التي نشأت فيها.

تغيب ليلى عن مسرح الرواية لتعود من خلال صدفة جعلت حامد يقف وجهاً لوجه معها بعد تكليف رئيس تحرير المجلة له بالكتابة عن شاعرة تكتب باسم مستعار يعرف حامد أنها ليلى شكران عندما يلتقيان في المقهى للحديث عن تجربتها الشعرية، فتحكي ليلى لحامد قصة عشقها للفنان التشكيلي العراقي الذي فر من ديكتاتور بلاده ليقيم في دمشق ويعشقها بجنون حَدَّ الشك بها وتخوينها وضربها. لكن العاشق الفنان الذي يقرر العودة إلى العراق بعد سقوط الديكتاتور على يد الأميركان لا يرى العراق الذي يعرفه، فيعود ثانية إلى دمشق، ليموت دهساً بعد أن يرمي بنفسه من باب سيارة الأجرة وهو في حالة سكر.

تتنازع المترجم حامد سليم بطل الرواية صراعات عديدة من خلال تجسيده لأكثر من شخصية تؤدي أكثر من عمل، فهو مترجم روايات باسم مستعار لدى أحد دور الترجمة، وهو الكاتب في دورية تعنى بالأخبار الثقافية باسم مستعار آخر، وهو صائد الأفكار لمستبد آخر يَدَّعي الإبداع الروائي باسم مستعار ثالث، علاوة على كونه حامد سليم المقموع والمستبد به والمنزوي، ما يدخله في صراعات فكرية ونفسية وحتى عائلية جعلته يخضع لأكثر من سطوة لشخصيات استغلت حالة إقصائه القسري وابتعاده عن الأضواء وعن مخالطة أقرانه، بدأت بشريف حسني، وتعددت ،إلى أن وقع أخيراً في أحابيل (الفاروط) الذي طلب منه أن يزوده بأفكار روائية من خلال ما يترجمه من روايات تمكِّن الأخير من نسج روايات على منوالها مسروقة الحبكة والظهور تالياً بمظهر المبدع الكبير، لكن حامد يثور على نفسه نهاية المطاف، ويقرر قطع العلاقة مع الشخصيات التي سكنته وكادت تقتله بأن ينهي تعامله مع الفاروط غير آبه بالنتائج، انتصاراً لحامد المترجم الحر بأي ثمن.

يتفق حامد مع الفاروط على موعد خارج المنزل ويحضر نفسه لاتخاذ قرار قطع العلاقة معه مهما كان الثمن حتى لو قتله، ويحدث أن يقطع سيرهما مصادفة أديبة شقراء حسناء محظية يتلهى بها الفاروط عن الشجار مع حامد ثم يعودان للصعود إلى جسر فوق شارع بيروت، يهم حامد برمي الفاروط من فوق الجسر لكن الأخير ينجح بالفرار، وتنتهي الرواية على عودة حامد واحداً من آلاف الروائيين الذين تتقاذفهم الحياة والضغوطات والإقصاءات والتهميش، شعر بالسعادة لأنه لم يعد وحيداً.

(المترجم الخائن) رواية تسابق فيها السرد مع الحوار، تقاطعا أحياناً وطغا أحدهما على الآخر أحياناً أخرى، وفي كلا الحالتين حافظ النص على متانته وخلق عامل التشويق ورسم مساراً سلساً يغري القارئ بالتشبث به حتى النَّفَس الأخير.

فواز حداد في سطور

الأديب السوري فواز حداد

– أديب سوري من مواليد دمشق في العام 1947

– حائز على إجازة في الحقوق من جامعة دمشق.

– صدر له العديد من الروايات والكتابات القصصية من أبرزها:

“موزاييك دمشق 39” في العام 2007، “عزف منفرد على البيانو” في العام 2009، “جنود الله” في العام 2010، “السوريون الأعداء” في العام 2014، “الشاعر وجامع الهوامش” في العام 2017، ومجموعة قصصية بعنوان “الرسالة الأخيرة” في العام 2008.

  • المترجم الخائن – رواية للأديب السوري فواز حدّاد، صدرت عن دار رياض الريس للكتب والنشر في لبنان في العام 2008، وحضرت الرواية في القائمة النهائية “القصيرة” للجائزة العالمية للرواية العربية “بوكر” في العام 2009.
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل