الحديث عن ثورة مجهضة رغم قساوته؛ لا يعني التسليم بهزيمة نهائية أمام النظام؛ بل يدعو لمراجعة طرق الحمل الثوري وشرعيتها وأسباب الإجهاض ونتائجه.
اندلعت الثورة السورية على شكل احتجاجات شعبية سلمية؛ لكنها لم تحمل في بنيتها عوامل المقاومة والصمود الطويل أمام نظام شرس متمرس؛ ومع تصاعد زخم الاحتجاجات الشعبية لمستويات قياسية؛ كان ترقب إعلان النصر حتى للمراقب المحايد قيد أنملة كما يبدو؛ لكن عوامل مؤثرة وغير ملحوظة قلبت الموازين في النهاية.
بدأت عوامل الإجهاض المبكر مع رغبة وإصرار القيادات الناشئة للحراك الشعبي للحفاظ عليه بصورته السلمية العفوية؛ لا وحتى الشعور بالزهو والفخر في تكريس وسائل وأدوات احتجاج بسيطة تضمن استمراره كذلك؛ في محاولة لتكرار الربيع العربي والثورات البرتقالية؛ دون إدراك الفوارق الجوهرية في بنية النظام الأسدي والمجتمع السوري.
يتحمل قادة المعارضة والحراك مسؤولية الوقوع في الفخ المنصوب لهم بإحكام؛ وذلك من خلال توقعهم السقوط السريع والمفاجئ للنظام؛ مع سعيهم لاستمرار الحراك بالصورة النمطية المخادعة نفسها على مدى أشهر؛ دون الانتباه أو إدراك التحولات المستمرة داخلياً وخارجياً؛ والفشل في ابتكار وسائل لمواجهتها.
يمكن التوسع في اتهام القادة بالتراخي والجبن وعدم الجرأة في تحويل الحراك لنمط ثوري على غرار الثورات التاريخية الكبرى بداعي الخوف والحذر من نتائج كارثية؛ ولا شك أن للثورة نهجها وقوانينها الخاصة ونتائجها المختلفة كذلك؛ ولا يمكن اعتبار عسكرة الحراك بعد عدة أشهر من السلمية تحولاً نحو العمل الثوري؛ فقد جاءت العسكرة في سياق ردود الأفعال ضد توسع النظام في ممارساته القمعية؛ وأدت لإضعاف الحراك السلمي وتهميشه؛ ورغم المكاسب الميدانية الواسعة التي حققها الجيش الحر بداية؛ إلا أن ذلك تحول لفوضى عارمة بسبب تدفق الجهاديين المتشددين للأراضي السورية؛ واستغل النظام ذلك في تغذية تنظيمات متطرفة عملت ضد أجندة الثورة؛ وأدت العسكرة لفتح الباب أمام التدخل الخارجي المباشر والسيطرة على عمل فصائل وتوجيهها وفق مصالح الدول الداعمة ورغباتها؛ وحصل تداخل وتشابك بين الحراك السلمي والعمل السياسي للمعارضة ومع العسكرة دون وجود نوع تنسيق فاعل أو مقبول بين تلك المستويات من العمل الثوري؛ مما أدى لحالة من التنافر والتشاحن والصدام بين تلك المستويات المختلفة؛ وصولاً لنشوب صراع وقتال بين أطراف محسوبة على الثورة.
سارعت العديد من الدول لإعلان الدعم والتأييد لثورة الشعب السوري وحقه في الحرية والكرامة؛ وظهرت مجموعة أصدقاء سورية؛ وتبين أن هدفها هو السيطرة على الحراك الثوري بكافة مستوياته وربطه بأجندة المصالح الخارجية اللاوطنية.
تعتبر سورية نموذجاً مثالياً لدراسة الجيوبوليتيك؛ فقد مثلت على الدوام عمقاً تاريخياً واستراتيجياً متبادلاً بين الغرب والشرق كونها قلب العالم ونقطة الالتقاء بينهما؛ لكن ذلك الموقع المميز كلفها تاريخاً طويلاً من الأمجاد والمآسي بنفس الوقت.
يسجل التاريخ البشري أهم الوقائع المكتوبة والمدونة على الأراضي السورية؛ لكنها كانت على الدوام ساحة لتصفية الخلافات والنزاعات الإقليمية والدولية؛ لكن سورية باتت تحت قوات الاحتلال المتعدد الأشكال؛ كما امتلأت بالميليشيات والمرتزقة وأجهزة المخابرات من كل حدب وصوب.
رغم محاولات القوى الثورية العمل في إطار وطني خالص لإسقاط النظام؛ إلا أنها كانت بحاجة لدعم خارجي أفقدها هويتها واستقلالها؛ وبينما كان النظام يبدو آيلاً للسقوط تحالفت دول وقوى متصارعة للحفاظ عليه بشكل غريب لا يمكن تصوره أو تكراره.
أجاد النظام خلال عقود اللعب على ورقة التوازن الدولي والإقليمي والإمساك بها؛ بحيث بات وجوده حاجة ملحة للجميع حتى الراغبين في إسقاطه؛ ويبرز في المقام الأول دوره في الحفاظ على أمن اسرائيل.
أجهضت الثورة مرة بفعل عوامل خارجية وأخرى بفعل عوامل داخلية صرفة أشد ألماً؛ وعلى السوريين فهم معادلات التاريخ والجغرافيا؛ والبحث عن مخرج من تأثيراتها وتقديم مشروع وطني يضمن السيادة والحرية والكرامة وهو ليس بالأمر السهل.
عذراً التعليقات مغلقة