في الحقيقة كانت لدى محمود الحمصي مخططات أخرى بالنسبة إلى حياته. فالسوري البالغ من العمر 28 عاماً كان ينوي العمل كمدرس، لأنه درس في دمشق الأدب الفرنسي، إلا أن اندلاع الحرب قلب حياته رأساً على عقب؛ إذ أنه بموجب القانون كان يتوجب عليه الانخراط في صفوف قوات الأسد لقتال المعارضةـ لكنه هرب عبر تركيا ومنها إلى أوروبا سالكاً طريق البلقان وصولاً إلى ألمانيا. وفي 2015 وصل الشاب السوري إلى مدينة بون. وحصل الحمصي على إقامة ولمّ شمل عائلته بعد ذلك. بيد أنه سرعان ما لاحظ أن حلمه قد تبخر: “وجب علي البداية من الصفر: دراسة جامعية لمدة لا تقل عن أربع سنوات. غير أنه لم يكن لديي الوقت الكافي لذلك”.
وعوض ذلك تصفح الشاب كراسة صادرة عن الوكالة الاتحادية للعمل تعرض كافة أنواع التكوين المهني والتأهيل الحرفي في ألمانيا. وقرر الشاب أن يصبح أخصائي بصريات وعدسات طبية: نظّاراتيّ. وبعد عشرة أيام سيبدأ الحمصي تكوينه الذي يستمر ثلاث سنوات في مدينة بون. ويبدو أنه سعيد لهذا الاختيار: “إنه عمل متعدد الجوانب وله فرص مستقبلية جيدة. ويمكن لي العمل في الورشة أو البيع وتقديم المشورة للزبائن. هذا التكوين المهني ممتاز لي”.
معركة تكللت بالنجاح ضد البيروقراطية
وما كان لمحمود الحمصي أن يكون سعيداً اليوم بالآفاق المتوفرة لديه لو لم تكن السيدة الألمانية التي يتدرب عندها قبل ثلاث سنوات عنيدة؛ إذ أنها هي من بدأت كفاحاً في 2016 ضد البيروقراطية الألمانية للحصول على فرصة تكوين لسوري آخر. “لقد ضغطت على نفسي. وقلت الآن أريد معرفة ما يحصل”، تقول السيدة أولى فاس بندر. المرأة البالغة من العمر57 عاماً تقلب بفخر مجموعة من الورق جمّعتها خلال معركتها مع البيروقراطية الألمانية: طلب التدريب المهني، ومراسلات مع وكالة العمل، ورسائل إلكترونية متبادلة مع الجهة المختصة في بلدية مدينة بون. “حاولت تدوين والاحتفاظ بكل شيء. كانت حينها فعلاً كارثة”، تضحك السيدة الألمانية.
والكفاح الناجح من أجل تمكين لاجئين من الحصول على فرصة تكوين جاء بثماره. فشركة السيدة فاس بندر التي مكنت خلال السنوات الاثني عشر الماضية 21 شاباً إتمام تكوينهم كأخصائيين في البصريات والعدسات تمت مكافئتها من غرفة الحرف اليدوية في كولونيا في السنة الماضية بفضل عملها المجتمعي. وهذه السنة كُرمت أيضاً من طرف وكالة العمل بفضل الدعم الممتاز لتكوين الناشئ. “في حفل التكريم قبل أسابيع، سردت مرة أخرى الحكاية كلها لعام 2016. والناس في وكالة العمل تذكروا، وقالوا كنت تلك المرأة!”.
اللاجئون في ألمانيا لسد النقص في المهن الحرفية
مساعدة السيدة السورية للسوريين الشباب ليست بدون فوائد عليها. “لدينا في حي باد غودسبيرغ نسبة عالية من المواطنين العرب الذين أصبح هناك من يتكلم لغتهم وبفضله أكسبهم زبائن”. كما أنه بات من الصعب في سوق العمل الألمانية إيجاد شباب يهتمون بمهنة الأخصائي في البصريات، تقول السيدة فاس بندر مضيفة: “نبحث منذ شهور بكل جهد عن حرفيين ومهتمين بالتكوين والتأهيل المهني. يبدو أن طول مدة العمل تخيف الناس، لأننا نعمل أيام السبت أيضاً”.
ومحمود الحمصي ليس له أية مشكلة حتى مع العمل في الورشة حيث يتم تصنيع جميع النظارات. “قمت في السابق بمساعدة شقيقي في مصنع النجارة وبالتالي فإنني أتمتع ببعض المهارات اليدوية”.
والأهم لوضع موطئ قدم ثابت في ألمانيا، إلى جانب الانضباط في المواعيد والدقة، اللغة. وتمكن الحمصي مؤخراً من تجاوز امتحان الدرجة الخامسة (C1) في سلم الكفاءة اللغوية المكون من ست درجات. “يجب الإلمام بالألمانية، وهذا ما يفشل فيه الكثير من اللاجئين. لكن اللغة هي مفتاح كل شيء هنا”.
Sorry Comments are closed