ذكريات آب الأسود

أمير أبو جواد21 أغسطس 2018Last Update :
أمير أبو جواد

لم يكن يوماً عادياً حيث الهدوء بلا رياح، كانت أصوات المعارك البعيدة في منطقة المرج تسمع بين الحين والآخر، وكنت مع أصدقائي أمام سوبر ماركت بالحي نلعب الشطرنج حوالي الساعة 12.00 ليلاً.

جاء التعميم على قبضة اللاسلكي لأخذ الحيطة والحذر وأن قوات النظام ستستهدف الغوطة الشرقية بصواريخ أرض أرض، بعد أقل من نصف ساعة سمعت أصوات انفجارات بعيدة فأيقنا بأن هذه الصواريخ التي سبق أن تم تحذيرنا منها.

أكملنا اللعب وكانت أصوات كثيرة على قبضة الهاتف تنادي أشخاصاً وتطلب تواجدهم في النقطة الطبية، بعد مضي ساعة أو أكثر سمعت أصوات صواريخ غريبة النوع وكأنها أشبه بعواء الكلب -صوتها يرافق سمعي حتى اليوم- رحنا نسأل بعضنا البعض ما هذا الصوت وما هذه الصواريخ ونحن نكمل اللعب..

لحظات وجاء صوت أحدهم متعباً يقول ما الذي يحدث لماذا يطلبون الاسعاف والاستنفار ماذا يوجد في زملكا وعين ترما؟ بعدها تواردت الأخبار بسرعة: غازات سامة قصفت بها المنطقة.

قال صديقي إنه خبر عادي كغيره وليست هي المرة الأولى التي يستهدف بها النظام جبهاتنا بغاز الكلور.

توتر كبير اجتاح قبضات اللاسلكي، مطلوب استنفار كامل لكل الطواقم الطبية والتوجه لأقرب نقطة اسعافية، تعميم “عمليات يا عمليات كل شخص بيعرف طبيب أو ممرض يروح ع بيته يفيقه من النوم ويخلي يتوجه لأقرب نقطة طبية”، بدوري ذهبت مسرعاً لمنزلي كان أخي الطبيب قد عاد للمنزل بعد أن قضى مناوبته والتي استغرقت 24 ساعة متواصلة في النقطة الطبية، قمت بإيقاظه وطلبت منه التوجه الى المشفى بشكل فوري، ذهبت برفقته كنا مسرعين بالمشي تارة نركض وتارة نمشي.

لحظة دخولنا للمشفى كانت أهوال القيامة أسرع من وصولنا، سيارة من نوع كيا 4000 محملة بأشخاص فوق بعضهم، الزبد يملئ أفواههم وآخرون يتقيأون، كان سائق السيارة يلبس الزي العسكري ويصيح من قبضته “قلت لكم اضربوهم ولم تفعلوا لماذا أيرضيكم هذا الذي حصل”، وقفت للحظات غير شعورية كطفل صغير لا يعلم ما هذا الذي تراه عيناه، عند توجهي للإسعاف كانت أصوات الصراخ والبكاء ورائحة الزبد تملأ المكان وكان الأطباء يصيحون “تنبهوا وتعاملوا بحذر إنه استهداف كيماوي لم يعرف نوع الغاز بعد”.

كان الطاقم الطبي يعمل بكل جهد وإخلاص يحقن المرضى بالإبر اللازمة ويغسل الأشخاص المصابين ويقوم آخرون بنقلهم للأسرة لكن عدد المصابين تجاوز قدرة وإمكانيات المشفى.

غطت الجثث الممددة أرضية المشفى، السيارات بالعشرات تنقل المصابين أغلبهم نيام لا يتكلمون ولا يشعرون، كان سر الاستهداف بأنه غاز السارين السام وهذه هي أعراضه.

بدأت أشعر بتوسع حدقة العين وضيق في جهاز التنفس خرجت خارج المشفى الناس جميعا بالشوارع، أشخاص ينادون داخل الأحياء لكل شخص يملك سيارة بالتوجه لإسعاف المصابين من حي الزينية في عين ترما وزملكا وأطراف مدينة عربين، الخوف، الهلع، والفزع يملأون الوجوه، مآذن الغوطة تنادي لإسعاف الجرحى.

طلب بعض الأطباء إحضار الخل والكولا لانقاذ المصابين لأن كمية الاتروبين نفذت من مشافي الغوطة الشرقية والجميع يتراكض لاحضار الخل والبصل وعبوات الكولا لإنقاذ المصابين، لكن العجز سيد الموقف فالجميع قد غادر هذه الحياة لاستنشاقه الغاز اللعين، أطفال نساء شيوخ ممددون أغلبهم بملابس النوم قد فارقوا الحياة بغاز لعين أرسلته أيادٍ خبيثة.

بعد أن تمكنت من أخذ قطرات الأتروبين في عيني توجهت برفقة الإسعاف للمكان المستهدف، كل ما بوسعك عمله هو كسر باب المنزل والدخول وإسعاف المصابين لعدم قدرتهم على فعل أي شيء، كان العشرات منهم قد اتجه نحو النوافذ ومنهم من فارق الحياة ومنهم من يلفظ أنفاسه الأخيرة، جثث على الأدراج وفي مداخل الأبنية وجميعها ممدة دون أي حركة.

دخلت إحدى الغرف لأشاهد ثلاثة أطفال نائمين بجوار بعضهم متمسكين ببعضهم يملئ وجوههم بياض الزبد قد فارقوا
الحياة أيضاً

العجز سيد الموقف.. في طريق العودة للنقطة الطبية توقف سائق الإسعاف بمنتصف الطريق ليسقط بالأرض بعد أن فتح باب سيارته واستنشق كمية من السارين، قمنا بحمله ووضعه مع المصابين وإكمال الطريق نحو النقطة الطبية.

أقسم أنها القيامة.. للوهلة الأولى كل من ارتمى أرضاً فارق الحياة، لا صوت يعلو فوق الصراخ، جلست قليلاً على الرصيف بساحة المشفى ليخبرني أحد الأطباء بأن هذا الغاز اللعين لا علاج له وأن عدد الوفيات قد يتجاوز 500 شهيد
ولن نستطع عمل أي شيء فنحن قد قدمنا كل مابوسعنا من أجل إسعافهم.

كانت الساعة قد تجاوزت الرابعة فجراً، توجهت لمنزلي لأخبر أمي بأني مع أخي في المشفى وكان قد وجه نصيحته لي بأن أخلع ملابسي خارج المنزل وأن أدخل فوراً لاستحم وقد فعلت ذلك.

أخبرت أمي وقلت لها إنه هجوم كيماوي، لم تدرك هول المصيبة، إنه هجوم جديد ولم نكن نعلم ماذا تعني كلمة سارين، تمددت على سريري ولم أستطع النوم، توسع جديد في حدقة العين أشعر وكأن عيناي ستخرج من مكانهما، أصواتهم ملأت المكان، رحت أستذكر الموقف أستذكر مشاهد كثيرة، عدد المسعفين، عدد الأشخاص الذين تبرعوا بالخل، عدد الأشخاص الذين آووا المصابين وحضنوهم في منازلهم بعد أن تحسنت صحتهم.

تذكرت ذلك الرجل الشجاع الذي كان يلبس البدلة العسكرية حين ذهب بسيارته لإسعاف والمصابين وارتمى أرضاً
حين وصوله للمشفى ليرتقي شهيداً، راحت تدور بمخيلتي أصوات المسعفين الذين نجحوا في إسعاف المصابين واختنقوا بالسارين وارتقوا.

الساعة السادسة والربع صباحاً، سمعت صوت المقاتلات الحربية، لم يكتف المجرم بالخنق فقط بل قام باستهداف إحدى النقاط الطبية في المدينة، وقفت على أطراف الشارع الملاصق لمنزلي كان العشرات من أهالي البلدات المتبقية قد حزموا أمتعتهم واتجهوا لبلدة المليحة للخروج لدمشق عبر المعبر الوحيد.

ذهبت برفقة المسعفين لدفن العدد الكبير من الشهداء، كانوا قد حفروا لهم قبراً كبيراً يتسع لهم جميعاً ودفن المئات حينها، دفنت عوائل كاملة لم ينجُ منها أحد.

بعد هذه الحادثة بأيام قليلة دخل وفد الأمم المتحدة وعاين المصابين وأخذ العينات معه، ولليوم ما زال المجرم حراً طليقاً.

اليوم وبعد خمس سنوات من تاريخ الهولوكوست لا يسعني سوى أن ألعن ضمير العالم الآثم بحق أطفال الغوطة الشرقية الذين خطفهم غاز السارين وقضى على براءتهم.

اليوم أقف على جنبات الماضي أستذكر حادثة قلبت موازين الاجرام بحق البشرية، بأي ذنب قتلوا؟ أفكر بعشرات العائلات التي دفنت دون أن ينجو من يرث لهم حق الثأر، من يعيدهم لي؟

“يا بابا قوم”، “عمو أنا عايشة آمنة أنا عايشة” كلمات سيخلدها التاريخ لتكون وصمة عار جديدة على جبين البشرية
إنه آب الأسود يوم مشؤوم وساعات ملعونة قد تجاوزناها نادمين لماذا لم نستنشق هذا الغاز اللعين بكميات أكبر لنموت مكرمين خير لنا من هذه الساعات المليئة بالقهر والوجع والمآسي.

السلام على 1600 شهيد ماتوا دون قطرة دم واحدة.. واللعنة لقاتليهم.

Comments

Sorry Comments are closed

    عاجل