لو قررنا استجواب كل فرد من أفراد مجتمع ثائر ينادي بالحرية، كالمجتمع السوري مثلاً، وسألناه عن رأيه في الحرية، بالتأكيد ستكون الإجابات صادمة وخاصة فيما يتعلق بموضوع الديمقراطية وحرية المرأة أو حرية المعتقد… إلخ. ولكن هل هذا يعني أن لا تُمنح الحرية لمن يرفضونها كمبدأ لأنها قد تتعارض مع عاداتهم وتقاليدهم؟
يستطيع أي مُدَلِس هنا أن يظهر لنا أن الشعوب العربية عامة غير مهيأة للحرية بناءً على السؤال السابق، كما يستطيع أي نظام مستبد ديني أو سياسي أن يظهر الحرية على أنها فكرة تتنافى مع الأخلاق أو درجة الوعي السياسي للجماهير، ولكن هذا لا يغني عن الحقيقة في شيء، فالحرية كمبدأ تكمن في قبول النخب السياسية والاجتماعية للحرية، فهذه النخب هي التي تخضع للاستجواب وليس الأفراد، فمتى كانت المنظمات والمؤسسات والأحزاب والحركات تخضع لمبدأ الحرية وتقبل به، حينها يمكننا من خلال هذه النخب نشر الوعي بالحرية، والمعركة الحقيقية تكمن هنا أي في تطوير حرية الارادة والحرية المدنية والحرية السياسية لكافة الفئات التي تتبع لهذه الجماعات، من هنا فالوعي السياسي للأفراد لا يحتاج إلى درجات علمية رفيعة من اجل ممارسته كما يتشدق بعض المثقفين العرب، إذ يكتفي الفرد بفهم المجال العام الذي يساعده على معرفة حقوقه وواجباته، ولا داعي للاستفاضة هنا بأن فكرة الدول الاستبدادية قائمة على مصادرة النخب والأحزاب والحركات الاجتماعية والسياسية كافة لأنها العامل الوحيد الذي يستطيع أن يضرب مفهوم الوعي السياسي وبالتالي ضرب الحريات.
كنا قد ذكرنا (في تحرير الحرية.. 1-4) عن لعبة شد الحبال بين قيمتي الأمن والحرية، والصراع الأزلي بينهما، نعود هنا لنطرح السؤال التالي هل نختار الاستقرار والأمن أم نختار الحرية كتفاضل بين قيمتين؟
إن كل مطلب تغيير يواجه دائماً بعنف سلطوي، وأغلب الأنظمة المستبدة تمارس العنف المفرط لتوجيه المحكومين نحو الاختيار بين الاستبداد والفوضى، وذلك من خلال تحويل كل المطالبين بالتغيير إلى جراثيم ضارة تتآمر على الوطن، فيصبح الاستبداد في منزلة الوطنية وتصبح المطالبة بالحريات المدنية والسياسية على أنها مؤامرة خارجية، وحين يشتد صوت الحرية ويصبح طلبها مكلفاً إلى درجة نشوء حروب أهلية وإبادات جماعية تُطرح المفاضلة بين قيمة الحرية وقيمة الأمن (الاستقرار)، ولكن الاختيار بين من يسرقك وبين من يقتلك ويسرقك ليس خياراً عادلاً، وفي الحقيقة لا مجال لقبول هذا النوع من التفاضل، ولكن هنا يمكننا أن نسأل عن مدى استعداد الفرد للتضحية في سبيل حريته فالتضحية لأجل الحرية هو اختيار فردي وليس جماعي ولا يلام من لم يختر أن يموت أو يعتقل في سبيل حريته، ولكن عندما تمارس الحرية في ظروف معينة فإن استشعار الأفراد لها يكون أكبر مما يدفعهم للتضحية في سبيلها كما شاهدنا أثناء محاولة الانقلاب الشهير في تركيا، أما بالنسبة للشعوب الثائرة فعلى من يدعي أنه يقود دفة النضال في سبيل الحرية أن يكون واضحاً في طرح البديل عن النظام القائم حتى لا تذهب تضحيات الأفراد سدىً أو يتم استقطابهم ضمن أنظمة استبدادية جديدة كالدينية والعسكرية.
ختاماً، إن مفهوم الدولة قائم على مأسسة الحقوق، ولا يمكن للحريات أن تنشأ في جو من التعسف والفوضى التي تفرضها الأنظمة الاستبدادية، لكنها قابلة للتحقق في ظل القوانين التي تفرضها الدولة على أن تكون مهمة هذه القوانين حماية الأفراد وحماية حرياتهم من تعسف أي سلطة، أو حتى من اعتداءات الآخرين المختلفين طائفياً أو عرقياً.
إن الحرية لا تكمن في الكلية، لا يمكن للإنسان أن يكون حراً بالمطلق بحسب تعريفات ما بعد الحداثة، لذلك فلا بد لكل فرد من أن يتنازل عن جزء من حريته لتلك الدولة التي تسن القوانين ويصبح المقابل لأي حرية سياسية أو مدنية أو شخصية هو الإكراه والإلزام الذي تمارسه الدولة فالدولة وحدها من تملك هذا الحق في الاكراه شريطة أن تكون هذه الدولة هي دولة القانون والديمقراطية.
المراجع
- زيجمونت بومان، الحداثة السائلة، تر: حجاج أبو جبر، ط1، الشبكة العربية للأبحاث، بيروت. ص (304)
- خمس مقالات عن الحرية، مجموعة مؤلفين، تر: يزن الحاج ط1، 2015، دار التنوير، القاهرة
- إريك فروم، الهروب من الحرية
- عزمي بشارة، الحرية في الفكر العربي /ورقة بحثية/ المركز العربي للأبحاث 2018
- محمد شحرور، الحرية في الاسلام
عذراً التعليقات مغلقة