ظهرت سورية الحديثة كدولة بحدودها السياسية المعروفة قبل قرن من الزمن بناءً على نتائج الحرب العالمية الأولى وهزيمة العثمانيين الذين كانوا يحكمون البلاد العربية.
جرى تقاسم النفوذ على بلاد الشام والهلال الخصيب في اتفاق سايكس – بيكو الشهير بين فرنسا وبريطانيا عام 1916 من خلال رسم خرائط لدول جديدة وفرض حدود بينها؛ وجاءت اتفاقية سان ريمو عام 1920 لتفتح الباب للانتداب البريطاني الفرنسي على المنطقة وتأكيد الالتزام بوعد بلفور 1917؛ وتم تثبيت ذلك في معاهدة سيفر 1920.
اعتمد الغرب في مواجهة العثمانيين على دعم انتفاضة عربية ضدهم؛ وظهر الشريف حسين في القيادة من خلال التواصل والتنسيق مع أعضاء الجمعيات العربية الحانقين من سياسات التتريك والتمييز المتصاعدة والرافضة لمطالبهم الإصلاحية؛ وكان الشريف يستند لوعود حصل عليها من خلال مراسلاته الشهيرة المعروفة بـ حسين – مكماهون؛ وتظهر المراسلات التي كشف النقاب عنها مدى السذاجة السياسية العربية من حيث الاعتماد والركون إلى مراسلات لا تحمل أي صفة رسمية أو قانونية؛ والعمل لصالح أجندات الأخرين والدخول معهم في تحالفات مصيرية دون ضمان المصالح الوطنية والقومية ودون وضوح الرؤى والأهداف؛ والمأساة أن تتحول غفلة الشريف حسين وطريقته في التعامل العاطفي إلى ظاهرة عربية متكررة أنتجت هزائم ونكبات متلاحقة.
لم يتم التعاطي بموضوعية مع انتفاضة الشريف حسين وتحليل أسبابها ودراسة نتائجها بشكل منهجي؛ فبينما أطلق عليها القوميون العرب اسم الثورة العربية الكبرى ضد الاحتلال العثماني وبالغوا في إقحام الإيديولوجيا القومية في أسبابها؛ نظر إليها الإسلاميون بشكل مغاير واعتبروها مؤامرة غربية وضربة غدر في ظهر دولة الخلافة العثمانية التي دخلت الدول العربية أصلاً بصورة فتح لا احتلال.
جاء توقيت انتفاضة الشريف حسين وسط ظروف موضوعية مساعدة من حيث انتشار الفقر والجهل وتفشي الظلم والفساد وسياسات التمييز ضد العرب؛ ورغم أنها كانت أول حراك عربي صرف منذ قرون إلا أنها لم تتحول لثورة شعبية؛ فقد طغت عليها دوافع الشريف حسين في السعي للحكم والسلطة واستغلت بريطانيا ذلك للتلاعب به وبالقضية العربية.
كانت النخب العربية محيرة محيرة؛ فرغم أن مطالب الجمعيات والمنتديات العربية كانت إصلاحية دستورية أو الدخول في جامعة إسلامية أو الحصول على لامركزية عثمانية في أبعد الأحوال ولم تصل لسقف المطالبة بالانفصال عن الدولة العثمانية؛ لكنها ساندت أجندة الشريف حسين على بياض وانساقت وراء مطامعه الشخصية؛ وقد وقعت كذلك في فخ الوعود الغربية الفارغة أو ربما وجدتها في أفضل الأحوال فرصة لتحقيق الاستقلال عن الدولة العثمانية ثم الاتجاه نحو بناء الدولة الوطنية.
لا يمكن القبول بسعي بعض النخب تحقيق مصالحها من خلال مسايرة الشريف حسين؛ وولو فعلت ذلك تكون قد رسمت نمطاً مستقبلياً لعلاقتها مع أنظمة الحكم يرتكز على المناورة والانتهازية؛ وهو بالفعل ما سيطبع طبيعة عمل المعارضة خلال القرن التالي.
لم يدم طويلاً استقلال المملكة السورية الوليدة بزعامة فيصل بن الحسين؛ وفور إنجاز التفاهمات بين الدول الغربية على تقاسم النفوذ تم إخضاع سورية للانتداب الفرنسي منذ تموز 1920 وجرى عزل فيصل وإسقاط حكومته.
تم تهميش الأمير فيصل وإبعاده إلى لندن عن أروقة مؤتمر السلام في باريس؛ وأعطي فرصة المشاركة الشكلية بعد فوات الأوان؛ لكنه انتهز الفرصة لعقد اتفاق خطير عام 1919 مع حاييم وايزمان رئيس المنظمة الصهيونية العالمية فيما بعد أقر فيه بإعطاء تسهيلات لليهود والاعتراف الصريح بوعد بلفور؛ وقد تم مكافئة فيصل بتنصيبه ملكاً للعراق منذ آب 1921.
أما الشريف حسين فقد نفته بريطانيا بعد انتهاء دوره وفعاليته إلى جزيرة قبرص عام 1925 إثر تراجع قوته وسطوته لصالح ابن سعود.
ثلاثة دروس لا زالت تتكرر منذ الاستقلال الأول قبل قرن من الزمن؛ الأول حكام يعملون لصالح كرسيهم بتفويض من الخارج؛ الثاني نخب تدور في رحى الطبقة الحاكمة تسايرها وتعيش على موائدها؛ أما الثالث فهو تخلي الخارج عن الحاكم بعد الانتهاء من الدور المرسوم له.
بدأ تقسيم المشرق العربي وإخضاعه للاحتلال الغربي فور التخلص من السيطرة العثمانية مما يثير الكثير من التساؤلات حول الدور الفعلي الذي لعبه الشريف حسين؛ ولصالح من كان يلعب؟
عذراً التعليقات مغلقة