يسأل زائرون عديدون أجانب لتونس بلهفةٍ وحيرةٍ كثيرتين: لماذا يتصدّر الشباب التونسي قوائم المقاتلين المنضوين تحت الشبكات الإرهابية. ويبطن جل هؤلاء أسئلتهم، في حالات مثيرة أيضاً، بعضاً من الاستفزاز نكاية في بلد أجّج ثورات الربيع العربي، وما زال يصارع حتى يكون استثناءً ناجحاً.
أعترف أن كثيرين منا، ممن لا يكابر طبعا، يرتبك أمام هذا السؤال المحيّر فعلا. ها أننا، نحن الذين نعلم الطلبة جرأة السؤال ومتانته، نتحوّل الى أولى ضحاياه، حينما يُوجّه إلينا مثله.
لن أزعم الإجابة، هنا، بل أريد فقط طرح فرضياتٍ من شأنها، في اعتقادي، أن توسّع دوائر الفهم، وهو أمر يقتضي استبعاداً متعمداً لما دأب على استدعائه الخبراء والمختصون، وحتى بعض الأكاديميين الذين ما أن يسألوا عن أسباب ظاهرةٍ ما، على غرار الإخفاق المدرسي والطلاق والمخدرات والانتحار، حتى يسارعوا إلى استحضار ذلك الثالوث السحري: الفقر و البطالة والأمية، ويضيفون عليها بهاراتٍ أخرى، لا تغفل خشب الكلام وحطام البنى.
أعتقد أن الأمر يحتاج الذهاب إلى ما بعد ذلك الثالوث، فجل البارديقمات والنظريات القديمة تحتاج إلى إعادة التفكير حول قدرتها على تفسير ما حدث للشباب التونسي تحديداً. يبدو أن هناك عطباً نظرياً حاداً، لم يخفه كبار المختصين الحقيقيين في الجماعات الإرهابية، وربما ما زال بعضهم من تونسيينا فقط يكابر، فلنا، حسب اعتقادهم، ما يكفي وزيادة، لفهم كل الظواهر، ومنها خصوصاً الإرهاب وأشكال التطرف والعنف الديني والسياسي.
يشتغل حالياً مختصون عديدون في قضايا الإرهاب على شاكلة حرفيين تقليديين، ينحتون أدوات عملهم بكثير من الحرفية والحذر والتجريب، وهم لا يتوانون عن تعديل الأدوات تلك والتقنيات كلما بان لهم أنها غير مجدية، فقد تكون غير دقيقة أحياناً، وغير مجدية، أو غير صالحة أحياناً أخرى. فلا توجد تقنياتٌ، حسب اعتقادهم، معدة مسبقاً في هذا المجال بالذات، صالحة لفهم الإرهاب إلى حد الإصابة بدوار النسبية. لا شك أن الفقر والبطالة والأمية تظل مناخاتٍ مواتيةً للإرهاب، لكنها لا تصنعه.
بعيداً عن الحتميات تلك، وهي المعضلة التي واجهت العلوم الإنسانية والاجتماعية، وشجّت عقلها منذ النشأة، يمنحنا الإرهاب فرصة نادرة، نخباً علمية وصانعي قرار، عن البحث المضني عن مسارات تحول الشباب وانقلابهم، البطيء أحياناً والمفاجئ أحياناً أخرى، وانزلاقهم المدمّر والرهيب إلى دوائر العنف الديني بشكل خاص. فما الذي يدفع شباباً في مقتبل العمر كان يمزح ويرقص ويلعب، ويجتهد إلى التحول إلى كتلة من اللهب القاتل، وأي معنى يمنحه لفعله هذا. شهدنا في تونس حالاتٍ عديدة كهؤلاء ممن تورّطوا في أحداث القتل الشنيعة التي طاولت سياحاً، أو أمنيين، في الأشهر الماضية، فقد كانوا إلى حدود أشهر، وأحياناً أسابيع، قبل ارتكاب تلك الجرائم بشراً سوياً مقبلين على الحياة.
لا شك أن جاذبية الإرهاب تبلغ أقصى درجات نهمها، وتلتهم الشباب ذاك، حين يكونون منغرسين في تربة الحرمان المادي والعاطفي والنفسي. ولكن، علينا ألا نغفل تاريخ بيئاتهم المحلية، من دون أن ننسى الحفر في أخاديد المسارات الذاتية للأفراد في دروب حياتهم الخاصة. لا شك أن هناك أحداث وتواريخ هي مفاتيح لسراديبهم التي تتيح فهم تلك التحولات الفاجعة.
الفرضيتان الأساسيتان التي أسوقهما لفهم هذا الاستثناء التونسي، أو التي أغامر بهما في شكل حدوساتٍ سوسيولوجية هما:
أولاً: سياسات التحديث التي اتبعتها البلاد منذ استقلالها، وكان فيها عسفٌ كثير، إلى حد كان هذا التحديث استفزازياً. وقد راهنت النخبة على هذا التحديث الفوقي، لتثوير البنى الاجتماعية وتحطيمها. وسيكون من المبالغة اعتبار أولئك الشباب خلايا نائمة لجيوب مقاومة ذلك التحديث السافر. ولكن، نعتقد أنه إذا كانت أطياف عديدة من الشعب التونسي قد استسلمت تحت الخوف والدهشة لهذا التحديث، فإن بعضاً آخر قبلها، لما لذلك التحديث من مكاسب لا أحد يُنكرها. قايض التحديث، على غطرسته، رضى الناس مقابل ما منحهم من مكاسب، وأحيانا تعويضات عما خسروه من تقاليد الإرث القديم. منحهم التعليم والصحة وبحبوحة العيش، كما كان يقول الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة. علينا أن نقر أن قلة قليلة فقط كانت تتحسّر، وهي ترى القبائل تتفكّك وتعدّد الزوجات يُلغى، والسحر والشعوذة المهينة تنقرض، تحت مفاعيل العصرنة، ولو كانت تحت الإكراه…
كانت الدولة تنفذ، بالموازاة مع ذلك، خططاً وبرامج لتقاوم العطش والأمية والمرض، حتى استطاعت عبر سياسات التحديث أن تحقق لأجيال عديدة مكاسب حداثية، قلّ نظيرها في عالمنا العربي، خصوصاً في بلدٍ ثرواته الطبيعية محدودة، غير أن كل تلك المكاسب التي رافقت حداثة العقود الثلاث الأولى التي تلت الاستقلال تراجعت منذ التسعينيات، لتبقى حداثةً تلتهم روح التونسيين، من دون أن تمنحهم أملاً. تراجع منسوب الأمل في الحصول على الشغل والصحة والتعليم اللائق. لم تعد الحداثة تمنح تلك الجموع الواسعة والشعبية أي شيء في مقابل التهامها ذلك التقليد. لذلك، رأوا فيها حداثة أقليةٍ متنفذةٍ، إنها حداثة الإخضاع و الاحتقار والسطو والفساد… وعجزت النخب القادمة بعد الثورة عن التدارك ومصالحة التونسيين مع حداثتهم الاستثنائية. تم تجريد الأفراد وتعريتهم من كل الدثر القيمية، ما دفع بهم إلى الاحتجاج المدمر من خلال عنف الإرهاب القاتل.
أما الفرضية الثانية فتعود إلى تاريخ الإسلام التونسي القريب (المعاصر والراهن)، والراجع إلى الدولة الوطنية تحديداً، فهذا الإسلام الذي تشكلت ملامحه في الثلاثة عقود الأولى التي تلت الاستقلال، حسب اعتقادي، اتسم بافتقاد الشخصيات المرجعية التي تتكلم باسمه، وتعبر عنه، فباندثار آخر الزيتونيين، فقد الإسلام المعبرين الرمزيين عنه. أباح افتقاد الإسلام التونسي جغرافيته الرمزية والمؤسساتية الاستثمار الفوضوي فيه. وأتاح الانتصاب الفوضى في سوق الإسلام الرمزي الكبير في تونس للجماعات الإرهابية التكلم باسمه، خصوصاً في ظل خططٍ محكمةٍ لتجفيف المنابع، تم تطبيقها بعنايةٍ فائقةٍ خلال تسعينيات القرن الفارط، وها إننا نجني حصادها. طبعاً، لا يمكن أن نتجاهل المناخ الإقليمي، وغيره من السياقات الدولية، لكنها لا تجيبنا عن سؤالنا المتعلق بتصدّر التونسيين بالذات قوائم المقاتلين في الشبكات الإرهابية.
ما ذكرناه من فرضياتٍ تريد أن تتخلص من الحتميات الكلية، في مقابل البحث عن أصدائها في سير ذاتية تمزّقها الخيبات من فرط الارتطام بصدمات عوالم اجتماعية، سمتها الإحباط والخيبة، حيث تظل دوائر “القرابة والصداقة والأخوة” ملاذاتٍ لهوياتٍ منكوبة أصلاً.
* المصدر: العربي الجديد
عذراً التعليقات مغلقة