* ساري الساري
مع انطلاق الانتفاضة السورية في آذار من العام 2011 ضد نظام الوريث القاصر في دمشق ازدات وحشية هذا النظام وأفرع مخابراته القمعية التي تسمى زوراً أفرع الأمن، والتي كانت مهمتها قمع البشر ونشر الرعب والخوف داخل المدن والبلدات السورية وليس نشر الأمن والأمان للمواطنين.
ولم تكن قصص التعذيب والإخفاء القسري التي كان يتعرض لها السوريون والسوريات داخل أقبية المخابرات حدثاً جديداً أو ردة فعل، بل هو عمل ممنهج عملت عليه هذه الأجهزة الأمنية منذ أن أسسها القائد “الخالد” – رغم موته – ولكن هذه الممارسات القمعية لم تكن معروفة لعامة الشعب الذي كان يشعر بالخوف لمجرد سماع كلمة مخابرات أو أمن، ولكنها أصبحت معلومة للجميع مع بدء تصدع هذه المؤسسة الأمنية والانشقاقات التي حصلت داخلها والتسريبات الممنهجة للصور ومقاطع الفيديو والتي تظهر مليشيات طائفية تنكل وتعذب وتمارس أبشع الطرق الوحشية في التعذيب بحق الشعب السوري، والتي كان القصد منها تأجيج الروح الطائفية التي تساهم في ازدياد وتيرة العنف والقضاء على الانتفاضة السلمية وجعلها بيئة مستقطبة للجهاديين.
وقد نجح النظام في هذه اللعبة التي يجيد العزف على أوتارها جيداً، وقد ساعده على تحقيق خطته ولعبته المفضلة بعض شيوخ “الجهاد” الذين ينعمون بالعيش الرغيد والمال الزهيد والعمر المديد.
ولكن كل هذه الصور والفيديوهات التي تم تسريبها للشعب السوري، والعالم أجمع، لم تمنع هذه النظام من وقف تلك الممارسات بل لا يكاد يمر يوم دون أن نسمع شهادات من ناجين من أفرع الموت ونشاهد برامج تلفزيونية ومقالات صحفية وتقارير لمنظمات حقوق الانسان الدولية عن مأساة المعتقلين في دهاليز وغياهب السجون الأسدية، لكني أزعم ان سؤالاً لم يخطر ببال الكثيرين، ألا وهو: ما هو نمط الحياة التي يعيشها المعتقلون غير فصول الموت والتعذيب؟ وما السر وراء صمودهم؟
مساء يوم الجمعة بتاريخ 15 -6- 2012 كنت قد أمضيت أحد عشر ألماً في فرع المخابرات العسكرية 215 (فرع الموت) كنت لا أزال أحتفظ بذاكرتي التي خسرتها طوال فترة اعتقالي حتى بعد شهرين من خروجي حياً من نزهة الموت، كنت سعيداً جداً في المهجع (1 حديد)، لم تكن مجرد غرفة للجلاد يرمي فيها ضحاياه كل يوم بعد أن يمارس عليهم طقوسه الإجرامية والبربرية، بل كانت عبارة عن سوريا مصغرة بكل ألوانها وأطيافها ومكوناتها.
كان يغمرني ألم السعادة أننا جميعنا سوريون، وأننا نحب بعضنا، ليس هذا وحسب بل إننا كنا نمارس طقوسنا وكأننا خارج هذه المملكة المتوحشة، فطوال 13 يوماً التي أمضاها “حمادة” أردني الجنسية، في ضيافة “سوريا الأسد” كنا نعتني به ونؤمن له مكاناً لينام فيه، كون حجم الغرفة لا يسمح لشخص بالتمدد وافتراش الأرض، فكنا نضطر للوقوف بمساحة ضيقة جداً ليرتاح ونضمد له جروحه.
حمادة ذو السابعة والعشرين عاماً من العمر كان يعمل سائق تاكسي على طريق دمشق – عمان وقام بإدخال دواء إلى أقاربه في درعا، ليتم إلقاء القبض عليه متلبساً بحبوب “بانادول” بالستية، وعلب حليب أطفال عابرة للقارات، وشراب “سيتامول” من النوع النووي، اعتقل على إثرها و تعرض بعدها لتعذيب وحشي أدى إلى إصابته بالجنون وكل ما كان يعرفه حمادة أنه موجود في جامعة الأندلس وأنه يرغب بتدخين سيجارة واحتساء كوب من الكابتشينو كما كان يحب على ما يبدو.
وليس حمادة وحده من فقد عقله بل الجميع يفقد عقله لأيام أو أسبوع أو لشهور. كنا نذهب في نوبات طويلة من الضحك نتعرض على إثرها لعقاب جماعي.
سامر ابن مدينة حمص كان قد طُلب إلى التحقيق مرتين في ذات اليوم، تعرض خلالها لتعذيب كبير إلا أن الابتسامة لم تفارقه أبدا.
يدخل المساعد “شاليش” فجأة ويحمل في يده كبلاً كهربائياً مزركش الألوان معروف محلياً باسم “الكرباج” وقد أبدع الجلاد في صنعه بمهارة، وبصوت نشاز ينادي باسم سامر، فيجيبه سامر بصوت هادئ: (يا عاقد الكرباجين.. إن كنت تقصد شبحي.. شبحتني مرتين.. يا عاقد الكرباجين).
يعم الضحك بصوت عال أرجاء سوريتنا الصغيرة وينتهي بنا المطاف مشبوحين بمحض إرادتنا.
و”الشبح” هو أن يعلق الشخص على السقف من يديه لمدة تصل إلى 4 ساعات أحياناً.
لا شيئ كان يمنعنا من الابتسامة رغم الموت المستمر كل يوم.
كنا نضحك على أي شيء، يضحكنا أبو سطيف الأسطورة، الأربعيني الشامي ذو الشوارب الطويلة الذي عجز كل محققو الفرع طوال ثمانية أشهر من انتزاع أي معلومة منه عن مكان تواجد رفاقه في الجيش الحر في الريف الدمشقي، إلا أنه اعترف بنهاية المطاف بعد أن عرض عليه المساعد سيجارة حمراء طويلة.
نضحك على هاتفي المحمول الذي كنت أعتقد أن أحداً ما قد سرقه مني فيبادر أحد أصدقائي إلى إعطائي حذاء بلاستيكياً “شحاطة” ، ونضحك من مدى سعادتي لاستعادة هاتفي الذي أخزن فيه كل أحلامي وصور مظاهراتنا في كلية العلوم السياسية.
نضحك على صديقي الذي ندم لأنه أعطاني “الموبايل” لأنه كان يريد الذهاب إلى دورة المياه ولا يوجد لديه شيئ يلبسه بقدميه إلا “موبايلي”.
نضحك على صديقي الإدلبي الذي أقام علاقة طيبة مع أحد الصراصير وكانت تلك العلاقة مبنية على حسن الجوار والمصالح المتبادلة وتمضي ساعات وهو يحدثه أنه عندما يخرج سيأخذه معه إلى سراقب.
نضحك على الأشقاء ماهر وأحمد الفلسطينين السوريين من مخيم اليرموك الذي يحاول ماهر أن يصبح شفافاً ويخترق الجدران ولكن دون جدوى.
رغيف خبز واحد عليه أثار العفن و بيضة مسلوقة وقطعة جبن مالحة جداً لا يستطيع أي أحد تناولها، هي كل فطورنا الصباحي، وحبة بطاطا مسلوقة واحدة هي العشاء، كان الجميع لا يستطيع أن يأكل البطاطا لأنه لا يوجد ملح معها فتوصلنا إلى اختراع مذهل وهو أن يبقي كل شخص حصته من الجبن المالح الذي لا يؤكل إلى المساء ونضعها مع البطاطا كبديل عن ملح الطعام.
وللبطاطا المسلوقة فوائد كثيرة يجهلها معظم البشر، عدا كونها غنية بالبروتينات والنشويات فإن لها دور كبير في تحديد الزمن! هل نحن في النهار؟ أم في الليل؟! حيث اعتدنا طوال فترة الاعتقال أن البطاطا المسلوقة تدل على أننا في المساء وأن البيض المسلوق والجبنة المالحة تدل أننا في فترة الصباح كوننا نقبع في طابقين تحت الأرض ولا نرى نور الشمس أو نور وجه المحقق بسبب ربط أعيننا “بالطماشة” وهي عبارة عن قطعة من القماش توضع على العينين بأحكام حيث لا ترى الأشياء إلا بمقدار الضربات التي تتلقاها، وللإفادة العلمية أن الشخص الذي يتعرض ل 15 ضربة من “الكرباج” يفقد الشعور بالكرباج ال 16 وهذا هو السر الذي أحاول تفسيره علمياً منذ تلقيت أول 15 كرباجاً، ولم أفلح بعد!
كثيرة هي قصص الألم والمعاناة داخل سجون القهر في سوريا، يعرفها من مر بهذه التجربة المريرة، وقد ألمتنا كثيراً وفقدنا فيها خيرة شباب سوريا، لكن شيئاً ما يدفعنا للصمود وحب الحياة رغم الألم والموت، أننا سنحيا وأننا سننتصر لأننا أصحاب حق وقضية، وأن ظلم الجلاد لن يدوم وعلى الظالمين ستدور الدوائر.
جميل وحس عالي ورقيق ووصف مبدع يرقى لمرحلة الشاعرية