ولاء عساف – حرية برس:
سوسن.. فتاة سورية في العشرينات من عمرها، حولت الحرب حياتها إلى خريف متعب وطويل، حملتها هموماً لا حصر لها حيث راحت تترنح حياتها بين زوج مقعد وأطفال صغار.
تقول سوسن: عندما بدأت الثورة السورية ترى بصيص نورها الأول في سوريا، رحنا نتابع الأحداث بصمت أنا وأبي وأخوتي، ثم بدأ حمل السلاح بين الناس… بقينا في صمتنا خوفاً من وقوع الكارثة فوق رؤوسنا فنحن نسكن مدينة حماة ونستقر فيها.. نمتلك شقة فيها وبقالية نقتات من مردودها، نملك تاريخ عشناه وذكريات لم نكن نتصور يوماً أن نرميها ونمضي لنلتقي قدر جديد ونصنع ذكريات جديدة لكن هذه المرة.. سنمضي نحو مجهول مخيف.. نزوح وأيام بطعم التشرد، تركت جامعتي حيث كنت أحلم أن أدرس في كلية الصيدلة ولكن حالت المشكلات والفوضى إلى نزوحنا.
انتقلنا إلى أحد القرى في ريف حماة الشمالي وجلسنا هناك أنا وعائلتي هرباً من ظلم النظام ومن سطوة التكبر التي باتوا يمارسها كل من يتبع له ويحمل رتباً على كتفيه، لم يكن كل شيء متوفراً كما في المدينة لكن حاولنا التأقلم بمواساة بعضنا البعض.
تنهدت سوسن وتابعت قائلة: راحت الأيام تمضي ببطئ وعسر، لدينا أقارب وأصدقاء يساعدوننا ونساعدهم على حمل أوزار الحياة وأعبائها. وفي أحد الأيام جاء أحد الشبان من شباب الثورة وهو من أقاربنا يقاتل مع الثوار طالباً يدي من والدي راغباً بالزواج بي.
كان موضوع الزواج يشبه الصاعقة بالنسبة لي، فقد عشت على أمل العودة للدراسة واكمال ما بدأت، سقف أحلامي انهار فوق رأسي عندما جاء والدي يسألني عن رأيي ويحدثني عن أخلاق الشاب.. وبالفعل بعد صراع أيام وليالي بين عقل يحاول الاستمرار لتحقيق طموحي وقلب يدحرجني نحو الموافقة.. وافقت ومن حسن حظي أنه كان شاباً طيب الخلق.
سكنت في أحد القرى القريبة من عائلتي في ريف إدلب الجنوبي، عشت حياة لن أصفها بالسعيدة فلا سعادة في هذه الأيام.. لكن عشت براحة.. حملت بطفلي الأول.. وأنجبته في أيام كان الخروج فيها من المنزل مستحيلاً بسبب صراعات لا أدري فيها من الظالم ومن المظلوم، أنجبته في المنزل بحضور أمي وإحدى جاراتنا.. نجوت بأعجوبة، لم يعش ابني كباقي الأطفال فقد كنت أخاف كثيراً لذا منعته حتى من اللعب مع أطفال الجيران.
بات زوجي يتردد إلى المنزل كل ثلاثة أيام، يصبرني على حمل الأيام وسيرها، كان سيرها وهو بعيد عني ثقيلاً ومتعباً ومع ذلك صبرت، وحملت مرة أخرى بعد سنتين وأنجبت طفلتي الثانية.. ورحت أرعى طفلاي بغياب زوجي، حياة لا جديد فيها سوى الخوف والحرص والترقب.
إلى أن جاء ذلك اليوم المشؤوم.. جاءني خبر استشهاد زوجي في البداية، لكن بعد سويعات قليلة جاءني أخي بخبر نقله إلى العناية المشددة ووضعه المجهول، حاول في البداية ألا يزرع في قلبي الأمل لأن إصاباته بالغة لكن بعد أن سمعوا بأمل خروجه يتنفس عاد ليخبرني بما حصل.
هرعت إليه كان قلبي يجري قبلي وقدماي تسيران بلا هدى، ذهبت لأراه ودخلت المستشفى كالمجنونة أبحث هنا وهناك.. حتى أشاروا إلى الطبيب المسؤول عن حالته، كان وجهه شاحباً والعرق يتصبب منه وهو خارج من غرفة العمليات. سألته راجيه.. دامعة، قال لي: الشظايا تملأ جسده.. سيعيش لكن سيكون مقعداً فقد أصيب عموده الفقري.
لم يكن وقع خبر إعاقته أقل من مصيبة استشهاده..
صمتت سوسن وهي تكفكف دموعها المتعبة وقالت: بات عاجزاً.. بات مكسورا.. رجل عاش حراً يحلق لا يمشي.. ينطلق كأسد جامح خاض معارك لا حصر لها.. لم يكن في الكون شي يملأ قلبه سعادة كخوض المعارك وصوت الرصاص.
تابعت قائلة: خرج من المستشفى بعد حوالي الأسبوع.. خرج كسيرا وكأنني للمرة الأولى أراه، مطأطئ الرأس وكأنه يحمل هموم الجبال.
رحت أساعده في كل ما يقوم به، لم تكن هنا المشكلة، بل بدأ مالنا ينفذ، وهو لم يعد يقوى على العمل، في المرة الأولى طلبت من أبي بعض النقود وأعطاني بسخاء.. في المرة الثانية اقترضت من أصدقاء لنا.. ولكن ماذا بعد؟
رفعت رأسها دامعة تقول: عمري 23 عاماً.. معي شهادة الثالث الثانوي ولا أدري ماذا أفعل!
ساعدني والدي فيما بعد من خلال معارف له للتطوع في الدفاع المدني، وفعلا بعد عدة اجراءات قبلت وبدأت العمل، كانت اخته تساعدني.. تقضي نصف النهار ريثما أعود من العمل، ورهنت نفسي للحياة مع أطفالي وزوجي المقعد.
أراعي مشاعره.. وأعمل طوال النهار خارج المنزل وداخله، أدرس أطفالي رغم صغرهم فأنا أريدهم أن يكونوا مختلفين عن أقرانهم وأشرف على تربيتهما.
وتتسائل بقلب منهك: لا أدري هل باستطاعتي حمل كل هذه الهموم فترة أطول واستمر في كل هذه المعاناة، لا أستطيع أن أترك زوجي ولا أطفالي، ولا أعرف إن كنت أمتلك القوة للمضي والاستمرار.. ما يهون علي حالي هو أنه يشبه حال الكثيرات في سوريا ممن ترملن وحملن ما لا تستطيعه الجبال..
وختمت قائلة: للظالم يوم ينال فيه جزاءه ونحن لنا الله.
عذراً التعليقات مغلقة