في ملحمة الأوديسا تقوم “تسيرسي” بوضع عشبة سحرية لبحارة “أوديسيوس” فتحولهم إلى خنازير، وعندما أخبَر أوديسيوس أصدقاءه أنه وجد العشبة التي ستزيل عنهم السحر وتعيدهم بشراً، آوى الجميع إلى ركنٍ ضيق في الحظيرة وهم يتحاشونه، وعندما تمكن من أحدهم، دلَّكه بالعشبة التي أزالت السحر عنه، وبدلاً من أن يبتهج لعودته بشراً صبّ جام غضبه على أوديسيوس وهو يشتمه ويلعنه لأنه أعاده إلى حياةٍ يحتاج معها إلى التفكير الدائم واتخاذ القرارات، بينما كان يحيا حياة هانئة وهو يأكل العلف وينعم في ضوء الشمس، هذه الأسطورة تحيلنا إلى سؤال: هل الحرية نقمةُ تلبس ثوب النعمة؟
يبدو أن هواء الحرية ثقيل على رئة الكثيرين، فعندما تدرك أن العالم غير مبالٍ بإرادتك، سوف تتواطأ الرغبة مع الخيال على قهرك، إذاً ليس هنالك فعلٌ يحقق التوازن بينهما، العالمُ يقسو على من يسرفون في أحلامهم، عالم اليوم، عالم التكسير والتشييء، وأنت تبالغ حد الجنون، وتراهن أن التاريخ لن ينسى شخصاً مذعوراً أضاع حيواته من أجلِ أن يطلعَ صبحاً واحداً تكون العدالة فيه هي ميزان هذا العالم.
يبدو أن الخوف هو نقيض الحرية الأزلي، إذا لا تبدو الحرية متجسدة في الطيور أو الحيوانات كما يعتقدُ البعض، فالحرية اختصاصٌ انساني أساسه العقل والارادة لتجاوز كل العوائق التي تحول دون تحقيق الرغبات، ويبدو أن في هذا جهدٌ مؤلم يجعل الكثيرون يرفضون الترحيب بالحرية عندما تكون الفرصة سانحة، لكن من تتملكهم غوايتها يصبح من الصعب عليهم التخلي عنها بسهولة فهي أشبه بطبول الحرب التي تضخ الدماء في الجياد، للحد الذي تتغير فيه المعادلة من التخلي عن حريتي كي أضمن حياتي واستقراري إلى بذل الحياة مقابل التمسك بالحرية.
مع بداية الثورة السورية حاول النظام جاهداً إظهار جموع المتظاهرين على أنهم قطعانٌ عاصية وأن أغلبهم من الدهماء الجاهلة، وكثيراً ما أثيرت قضية أن المتظاهرين لا يعون أي معنى لكلمة “حرية” لكي يُظهر النظام لجمهوره أن جميع هذه الهتافات مسبوقة الدفع، وأن حامليها هم من الجراثيم الاجتماعية الضارة، علماً أن سؤال الحرية المبهم لدى إعلام النظام قبل جمهور الثورة كان برسم الاستبداد الذي دام لعقودٍ طويلة وليس برسم الضحية التي تجسد لديها مفهوم الحرية بمعنى الكرامة.
أثَّر هذا الخطاب مع عوامل أخرى على فصل المجتمع السوري إلى مجتمع النظام ومجتمع الثورة وإن كان هذا الفصل مشوشاً لدى الطرفين، وأصبحت الذريعة النفسية للفئة الاجتماعية الموالية جاهزة لكي ترمي كل التهم بالخيانة والعمالة على الفئة الثائرة وصار من حق النظام إبادة فئات اجتماعية كاملة وهو يستند إلى قاعدة شعبية تؤمن بضرورة هذه الابادة.
لكن صوت الحرية عاد ليظهر أكثر إدهاشاً وقوة، لأنها تمتلك جوابها الدامغ دائماً وتكسر كافة التشوهات التي قد تلحق بها، فخلال ثوانٍ قليلة من مقابلة يجريها أحد إعلاميي النظام السوري مع رجلٍ تم قلعه للتو هو وعائلته من الغوطة الشرقية وبعد سبع سنوات من حربٍ اختُبرت بها جميع أسلحة الأرض على هذه البقعة الصغيرة، يقفُ الرجل رابط الجأش مبتسماً بين ثلةٍ من الموتورين وهو يخبرهم أنه سيعود لسورية عندما تصبح للجميع لنا ولكم، لقد قالها دون أي عداءٍ أو ضغينة وهو لا زالَ معترفاً بكل أولئك القتلة من حوله لكأنه يناشدهم بأن يعودوا إلى إنسانيتهم وحريتهم فقد كان مؤمناً مثل أوديسيوس أن عشبة الحرية السحرية لربما تدغدغهم ذات يوم … كي يعودوا بشراً.
Sorry Comments are closed