“جئتكم بالذبح”.. كيف حرَّفت جماعات العنف النصوص؟

معتز الخطيب24 أبريل 2018Last Update :
معتز الخطيب

تكرر من مُنَظِّري العنف الاستشهاد بحديث “يا معشر قريش جئتكم بالذبح”، وقد أَجْهد مفتي الدماء أبو عبد الله المهاجر نفسَه في استقراء النصوص التي تحتوي على “ضرب الرقاب” أو “قطع الرؤوس” حتى قال: “والأحاديث التي فيها القتل بضرب الرقاب كثيرةٌ جدًّا”، و”صفة القتل بقطع الرأس وحَزِّها صفةٌ مشروعة درج عليها الرسل والأنبياء وهي من الشرع المشترك بينهم والحمد لله أولاً وآخرًا”، ويَقرن هؤلاء -باستمرار-  بين الملحمة والمرحمة، والرحمة والسيف، في وصف النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته.

وقد سبق لمحمد عبد السلام فرج أن استشهد بهذا الحديث أولاً في رسالته “الفريضة الغائبة” التي كانت تأسيسية في التنظير للعنف منذ السبعينيات، وشكّلت بداية افتراق منظري العنف عن فكر سيد قطب الذي ما كان يرى الشدة والغلظة، بل اتخذ منها موقفًا متحفظًا كما يظهر ذلك بوضوح في تفسيره.

وحديث “جئتكم بالذبح” يقدم لنا مثالاً بارزًا على تحريف مُنَظّري العنف للنصوص؛ بهدف إثبات شرعية الشدة والغلظة وسفك الدماء وأن ذلك من مقاصد رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن العودة إلى المصادر تُحيلنا إلى وجود اختلافات تُحيط بالحديث نفسه لجهتين: السياق والإسناد، ويمكن لنا أن نشير هنا إلى ثلاث روايات تكفي لإثبات الإشكال في الحديث مما يَحول دون صحة الاستشهاد به، وهي كالآتي:

الرواية الأولى:

حديث يحيى بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، قال: “قلت: ما أكثر ما رأيتَ قريشًا أصابت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانت تُظهر من عداوته؟ قال: قد حضرتُهم وقد اجتمع أشرافهم في الحِجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط، سفّه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرّق جماعتنا، وسبّ آلهتنا. لقد صبرنا منه على أمر عظيم، أو كما قالوا.

فبينما هم في ذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، فمر بهم طائفًا بالبيت، فلما أن مر بهم غمزوه ببعض القول، قال: وعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى صلى الله عليه وسلم، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى صلى الله عليه وسلم، فلما مرّ بهم الثالثة غمزوه بمثلها، ثم قال: “أتسمعون يا معشر قريش؟ أمَا والذي نفسُ محمد بيده، لقد جئتكم بالذبح” قال: فأخذتِ القومَ كلمتُه حتى ما منهم رجل إلا لكأنما على رأسه طائر واقع، حتى إن أشدهم فيه وطأة قبل ذلك يتوقاه بأحسن ما يُجيبُ من القول، حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم، انصرف راشدًا، فوالله ما كنتَ جَهُولاً.

فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من الغد اجتمعوا في الحِجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم عنه، حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه، وبينا هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوثبوا إليه وَثْبة رجل واحد وأحاطوا به يقولون له: أنت الذي تقول كذا وكذا؛ لِمَا كان يَبْلغهم عنه من عيب آلهتهم ودينهم؟ قال: “نعم، أنا الذي أقول ذلك”. قال: فلقد رأيت رجلاً منهم أخذ بمَجمع ردائه، وقال: وقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه دونه يقول وهو يبكي: أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله؟ ثم انصرفوا عنه، فإن ذلك لأشدُّ ما رأيت قريشًا بلغت منه قط” (رواه ابن حبان، وأحمد، والبزار).

الرواية الثانية:

حديث أبي سلمة، عن عمرو بن العاص، قال: ما رأيت قريشًا أرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يومًا رأيتهم وهم جلوس في ظل الكعبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام، فقام إليه عقبة بن أبي مُعَيط، فجعل رداءه في عنقه، ثم جَذَبه حتى وجب لركبتيه صلى الله عليه وسلم، وتَصَايح الناس، فظنوا أنه مقتول، قال: وأقبل أبو بكر رضي الله عنه يشتد حتى أخذ بضَبْعَي رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه، وهو يقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله، ثم انصرفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قَضَى صلاته مر بهم وهم جلوس في ظل الكعبة، فقال: “يا معشر قريش أما والذي نفسي بيده، ما أُرسلت إليكم إلا بالذبح”، وأشار بيده إلى حلقه، فقال له أبو جهل: يا محمد، ما كنت جَهولاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أنت منهم” (رواه ابن حبان وأبو يعلى).

الرواية الثالثة:

حديث ابن عباس: أن الملأ من قريش اجتمعوا في الحِجر فتعاهدوا باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى: لو قد رأينا محمدًا قمنا إليه قيام رجل واحد فلم نُفارقه حتى نَقتله، قال: فأقبلت فاطمة تبكي حتى دخلت على أبيها فقالت: هؤلاء الملأ من قومك في الحِجر قد تعاهدوا: أنْ لو قد رأوك قاموا إليك فقتلوك، فليس منهم رجل إلا قد عرف نصيبه من دمك، قال: “يا بُنَية أَدْني وَضوءًا” فتوضأ، ثم دخل عليهم المسجد، فلما رأوه قالوا: هو هذا، هو هذا. فخفضوا أبصارهم، وعُقِروا في مجالسهم، فلم يرفعوا إليه أبصارهم، ولم يَقم منهم رجل، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام على رؤوسهم، فأخذ قبضة من تراب فحَصَبهم بها، وقال: “شاهت الوجوه”. قال: فما أصابت رجلاً منهم حَصَاة إلا قُتل يوم بدر كافرًا” (رواه أحمد وابن حبان والحاكم).

تُفيد هذه الروايات الثلاث أن ثمة اختلافًا في سياق الحديث وفي إسناده، ولم نَستقص الروايات ولكن الحافظ ابن حجرأحصاها، وفيها الاختلاف على المسؤول في الحديث: ففي إحداها: سُئل عمرو، وفي أخرى: سُئل عبد الله بن عمرو، وهو ما دفع الحافظ ابن حجر إلى القول: “يَحتمل أن يكون عروة سأله مرة وسأل أباه أخرى، ويؤيده اختلاف السياقين، وقد ذكرتُ أن عبد الله بن عروة رواه عن أبيه بإسناد آخر عن عثمان، فلا مانع من التعدد” أي تعدد الواقعة، ثم رأى في رواية ابن عباس دليلاً آخر على تَعَدد الحادثة.

ما دفع ابنَ حجر إلى هذا التأويل هو حِرصه على إيجاد مَخْرج للتَخَلُّص من الإشكال ولتجنب اتهامِ الرواة بالخطأ، ولكن من الواضح أن الواقعة واحدة فهي تتفق على جوهر القصة في الكعبة مع قوم من قريش، ولكنها تختلف في التفاصيل وبعض الأطراف المشاركة في القصة، ما يعني أن ثمة تصرفًا وقع من بعض الرواة.

وبعيدًا عن تفاصيل الرواية، فإن السؤال الأهم هو كيف يمكن فهمها إن قلنا بصحتها؟ حمَل منظرو العنف لفظ الحديث على ظاهره – أي “الذبح” على الحقيقة – حتى قال أبو عبد الله المهاجر دون مبالاةٍ: “وصِفَة الذبح معروفة لا يتمارى فيها اثنان”!. وهو موقفٌ يكشف عن حَرْفية شديدة تتجاهل الاختلافَ المحيط بالحديث لجهتين: سياقه المشكل والمُختَلَف فيه، ومعناه ومدلوله الذي يُشْكِل مع سياقه الوارد فيه أولاً ومع باقي نصوص الشريعة ثانيًا.

والمعنى الذي فهمته جماعات العنف مردود؛ لعدة أوجه:

أولها: أن مقصود البعثة النبوية هو الرحمة، وأنه لا إكراهَ فيها؛ مما هو متواترٌ معنىً ونصًّا في القرآن والحديث والسيرة النبوية، وهو ما يتنافى مع ظاهر لفظ “الذبح”.

ثانيها: أنه صلى الله عليه وسلم لم يَفعل ذلك لا في مكة ولا في غيرها، أي أننا لو حملنا الحديث على ظاهر اللفظ فقد خالف فعلُه قولَه.

ثالثها: أنه صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو لقومه بالهداية ويحرص عليهم وقد حكى القرآن والسنة من أحواله تلك، ففي القرآن: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفًا) [الكهف: 6]، و(فلا تذهب نفسك عليهم حسَرات) [فاطر: 8]. وقد تَواتر من سلوكه صلى الله عليه وسلم ورحمته وإشفاقه في معاملة قومه المشركين في الفترة المكية ما يتعارض مع ظاهر هذا الحديث الذي ينتمي للفترة المكية نفسها، وقد تحدث القرآن عن ذلك المعنى بقوله: (فبما رحمة من الله لِنْتَ لهم ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك) [آل عمران: 159] (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) [الأنبياء: 107]، (وإنك لعلى خلق عظيم) [القلم: 4].

خامسها: أنه في هذه الفترة المكية كان مَهيض الجناح مُستضعَفًا قليل الأتباع لا يَقدر أن يهدد قادة قريش بما لا يملك إنزاله بهم فيما لو أراد ذلك، فكيف يهددهم بما يفوق قُدُراته الذاتية، ولاسيما أنه هاجر فيما بعد نجاةً من ائتمارهم به وسعيهم لقتله؟

سادسها: أننا لو نظرنا إلى السياق الكلي للحديث سنجد أن معنى الذبح هو الهلاك، وهو ما وقع فيما بعد، بعد الإذن بالقتال ونشوب المعارك، ومن ثم قُتل هؤلاء في بدر كما تَذكر رواية ابن عباس، أي أنه هدّد أناسًا مخصوصين بأعيانهم حاولوا اغتياله وتَولوا كِبر الصد عن دعوته وقَضَوا لاحقًا في معركة بدر، وقد فَهم نحوَ هذا عبدُ القاهر الجرجاني (471هـ): حين قال: “ليموت من مات بعد استبانة، ويعيش من عاش بعد استبانة، وذلك تتمّةُ وعد الله تعالى بهلاك قريش في قوله تعالى: (قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) [الفرقان:77]، وقال صلّى الله عليه وسلّم: (والله لقد جئتكم بالذّبح)”.

هذا الحديث مجرد مثال واحد على طريقة تعاطي منظري العنف وجماعاته مع النصوص والتراث الفقهي في تجاهل تامٍّ للتقليد العلمي المستقر، وباستخفافٍ عجيب!

Source مدونات الجزيرة
Comments

Sorry Comments are closed

    عاجل