بغض النظر عن رأينا بالرئيس الأمريكي ترامب، فإنه يتقن لعبة شغل بال المراقبين. آخر ما تفتقت به قريحته في مجال السياسة الخارجية هو سحب القوات الأمريكية من سوريا. جاء ذلك بعد أيام قليلة من تعيين جون بولتون مستشاراً للأمن القومي وتسمية مايك بومبيو وزيراً جديداً للخارجية. ولا يُعرف عن السياسيين الاثنين، حتى الآن على الأقل، دفاعهم عن نهج متحفظ في السياسة الخارجية، بل على العكس من ذلك تماماً؛ يدافع الرجلان بضراوة عن المصالح الوطنية الأمريكية وحتى وإن اقتضى الأمر التدخل العسكري. والسؤال هنا: كيف يستقيم تعينهما مع فكرة سحب القوات والمستشارين العسكريين الأمريكيين من سوريا؟
لا يجانبنا الصواب عندما نقول أن كلام ترامب هو خاطرة عفوية، لن يتبعها على أرض الواقع سحب القوات. إذ أنه في حال تحققه سيكون اعترافاً بأن السياسة الأمريكية في سوريا إلى اليوم لم تحقق الكثير، إذا أردنا أن نكون متحفظين في التعبير.
سيكون الأمر – وقبل كل شيء – خطوة أخرى باتجاه فقدان أمريكا لأهميتها الجيواستراتيجية في المنطقة. وبالنسبة للشرق الأوسط ستكون الخطوة باهظة الثمن، على عكس ما حصل عام 2003، عندما غزت الولايات المتحدة العراق استناداً على أكاذيب وقحة، وبفعلتها تلك لم تُدخل العراق وحده فقط في كارثة كبيرة، بل كل المنطقة.
هل كان بالإمكان أفضل مما كان؟
المؤكد هو أن علاقة الولايات المتحدة بنظام الأسد لم تكن أبداً خالية من التوتر. وتفضل الولايات المتحدة سقوط النظام اليوم قبل غد. وهذا يعود من جهة إلى قرب الأسد الأب والابن إلى النظام الإيراني، خصم أمريكا الأكبر في المنطقة. ومن جهة أخرى إلى موقفهما العدائي من إسرائيل، حليف أمريكا الأهم في المنطقة.
عملت الولايات المتحدة منذ سبع سنوات على إسقاط نظام السفاح بشار الأسد، ولكن بلا جدوى. هل كان عليها أن تكون أكثر حدة وصرامة معه؟ هل كان عليها ألا تتدخل في المسألة برمتها، وهو بالطبع الأمر الذي كان لا بد أن يحدث بتحفظ اللاعبين الأخرين عن التدخل، أي روسيا وإيران وتركيا والسعودية؟ كان يمكن للانتفاضة أن تسلك سبلاً أخرى في ظروف مختلفة.
الرابح الأكبر هو إيران
ما يمكن للمرء قوله هنا أن الانسحاب الأمريكي في هذا الوقت سيحدد ليس مستقبل سوريا وحدها، بل مستقبل كل المنطقة لعقود مقبلة. ما يمكن انتظاره هو على الأغلب هيمنة روسية يتم تنفيذها بتكتم. وسيادة إيرانية، يتم تنفيذها بشكل أقل تكتم إلى حد بعيد، على أجزاء من سوريا ولبنان وحتى الحدود الإسرائيلية.
سيصبح “الهلال الشيعي” حقيقة، وحقيقة فجة. إن نهج نظام ملالي طهران الداخلي وتدخله حتى الآن في سوريا يشيران إلى أنه سيفرض مصالحه في المنطقة دون اعتبار لأي أحد أو أي شيء. وتلك المصالح هي اقتصادية، غير أنها دعائية بالدرجة الأولى، وخصوصاً العداء الشديد والمحكم الإخراج لإسرائيل. وتلك هي ورقته الرابحة في المنطقة، وخصوصاً في الوقت التي أجبرت إسرائيل المتظاهرين في قطاع غزة على الصمت بقوة السلاح.
سيناريو قاتم
تداعيات الانسحاب الأمريكي ستكون ظهور إيران بمظهر المنتصر، والتي يمكن أن تقود المنطقة إلى حافة حرب أخرى. الاعتراف الضمني للرئيس الأمريكي في إعلانه نيته الانسحاب أن الولايات المتحدة لم تحقق الكثير، ما عدا القتال الناجح ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”، صحيح تماماً. غير أن كل شيء يشير إلى أن الانسحاب الأمريكي من المنطقة سيقودها إلى مستقبل أكثر قتامة.
عذراً التعليقات مغلقة