فور وصوله إلى جزر زنجبار في تنزانيا، طلب جاك الشاب السوري ذو الثلاثين عاما من السائق الذي يقله أن يدلّه على فندق يتحدث العاملون فيه اللغة العربية، ليوصله إلى فندق حياة ذي الخمس نجوم، المكان المعروف بأسعاره الباهظة في مدينة ستون تان، إذ تبلغ تكلفة الليلة الواحدة فيه 400 دولار.
وبالنسبة لجاك فإن تكلفة الإقامة في الفندق تعد باهظة جداً مقارنة مع مدخراته للعيش، لذلك أصبح هاجس البحث عن سكن مستقر وبسعر يسير همّه الشاغل الوحيد.
أسوة بحال الملايين من السوريين، انقلبت حياة جاك فجأة مع اندلاع النزاع في سوريا عام 2011، حيث بلغ عدد النازحين ما يقرب من 13 مليون سوري، مما يعني أكثر من نصف سكان البلاد قبل الحرب.
ووفقا لمفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين، فإن أكثر من 5.5 ملايين سوري من البلاد نزحوا خارج البلاد بحثا عن ملاذ آمن حتى فبراير/شباط 2018.
وفي الوقت الذي لجأ فيه معظم اللاجئين السوريين إلى الدول المجاورة مثل لبنان والأردن وتركيا، فإن سلسلة من القرارات السريعة واليائسة دفعت بمجموعة صغيرة من السوريين إلى ما يبعد 6700 كلم عن وطنهم الأم، حيث شواطئ زنجبار، وهي أرخبيل شبه مستقل تحت حكم ذاتي داخل جمهورية تنزانيا المتحدة، سعيا إلى نصيبهم من النعيم في بلد ذي اقتصاد سياحي مزدهر.
وأوردت وزارة الشؤون الداخلية للجزيرة أن بضع مئات من السوريين يعيشون حاليا في تنزانيا. وحتى 30 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، تم تسجيل ما مجموعه 31 سوريا لدى مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين، كما أفادت ميرما جودنيس أحد شركاء المفوضية.
وبحسب جوي أيوب المحرر الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لصحيفة “أصوات عالمية” (Global Voices) للجزيرة، فإن “أوروبا أغلقت حدودها أمام المهاجرين، وعقدت اتفاقا مع تركيا عام 2016 لتبادل اللاجئين بدلاً من تطبيق إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الإنسان”.
تشابه ديني وثقافي
توجه السوريون الباحثون عن بدائل معيشية للإقامة في زنجبار ذات الأغلبية المسلمة لوجود أوجه التشابه الدينية واللغوية والثقافية.
حكم سلاطين عُمان زنجبار لما يقرب من مئتي عام، وهو تاريخ طويل من الطرق التجارية بين اليمن وبلاد فارس وزنجبار على طول ساحل المحيط الهندي السواحيلي، يعود إلى القرن الأول الميلادي.
ويقول جاك “لقد جئت إلى زنجبار لأنني سمعت أنهم يتكلمون العربية وبإمكاني الدخول بتأشيرة سياحية لمدة ثلاثة أشهر، أما الأماكن الأخرى فهي تسمح بأسبوعين أو شهر فقط”.
وبدأ جاك، تاجر التوابل الذي ينحدر من منطقة جبل الشيخ على الحدود السورية اللبنانية، تصدير التوابل إلى لبنان عام 2012 عندما انخفضت قيمة الليرة السورية.
ارتفاع الأسعار الحاد دفعه للعودة إلى سوريا، حيث كان جيش بشار الأسد ينتظره للتجنيد. وفي العام نفسه، توفي شقيق جاك الأكبر بسرطان المعدة، مما جعله الابن الوحيد بين ثلاث أخوات في عائلته. وبموجب القانون السوري، يعفى الذكور الوحيدون من الخدمة في الجيش، إلا أن عائلة جاك لم تتمكن من استصدار شهادة وفاة، الأمر الذي جعل من المستحيل أن يطالب بحقه في الإعفاء العسكري.
دفع التضخم الاقتصادي الشديد في البلاد وتصاعد العنف والخوف من التجنيد العسكري بجاك للانتقال إلى بيروت حيث حجز عشرة أيام في أحد الفنادق المحلية، ودخل إلى الحدود متظاهرا بأنه مسافر عادي.
أمضى جاك عامين تقريبا في بيروت دون تأشيرة أو تصريح عمل، حيث كان يعمل من 12 إلى 18 ساعة يوميا في سلسلة من الوظائف المواتية في كازينو وبقالة ومطعم، إذ كان يجني ما بين 400 و600 دولار أميركي شهريا.
طوال هذه المدة، أجرت عائلته محاولات عديدة لتسجيل وفاة أخيه للإسراع بإعفائه العسكري دون جدوى. ومع شعوره بحالة من الاستنفاد جراء ظروف العمل غير العادلة والظروف المعيشية البائسة، اشترى جاك تذكرة ذهاب وإياب إلى زنجبار مقابل 160 دولارا.
بعيدا عن الجنة
ومع ذلك، تعتبر زنجبار بعيدة عن الجنة لأولئك الذين يسعون إلى العمل والسكن والوضع القانوني، حيث انتهت تأشيرة دخول جاك ذات الثلاثة أشهر دون حصوله على عمل، ليقنعه أحد معارفه بدفع مئة دولار إلى مسؤول حكومي مقابل وعد باستصدار “بطاقة لاجئ”.
مرّ شهر كامل دون أي رد من طرف الوسيط قبل أن يدرك أنه وقع ضحية لعملية احتيال.
وبحلول مايو/أيار 2017، تقدم جاك بطلب رسمي للحصول على وضع لاجئ في تنزانيا من خلال مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وفي انتظار استصداره اعتمد في معيشته على مساعدات من غرباء لدفع إيجاره الشهري البالغ مئة دولار، ومئتي دولار لتمديد التأشيرات، في حين كان يعمل سائق سيارة أجرة ومعالج تدليك وأخصائي أعداد.
يقول أليس كوين، الأستاذ المساعد في العلوم السياسية بجامعة ويسكونسن شيبويجان، للجزيرة إنه “مع تزايد حالة عدم الثقة في سياسات الهجرة واللاجئين، يعيش العديد من السوريين النازحين حياتهم في حالة من الهشاشة طي النسيان”.
قصة نجاح سورية
الحياة في زنجبار بالنسبة لطارق لباد (31 عاما) أخذت منحنى مختلفا تماما، فالتاجر الفخور الذي يملك مطبخ دمشق في حي كيكواجوني في ستون تاون يصرّ على تسمية زنجبار بـ”الوطن”.
ففي العام 2012 كان لباد يعمل في مطعم في منطقة السوق الحميدية الشهيرة في دمشق عندما أصيب والده في الساق بعد أن هز انفجار منزلهم. وبعد مدة وجيزة، اختطُف ابن عمه محمد واقتيد إلى الرقة حيث قطعت رأسه.
وتبعاً لهذه الأحداث، سارع لباد لبيع منزله وسيارته، واشترى تذاكر رحلات جوية إلى اليمن، حيث عمل موردا للأغذية مع عرض متجول لأفضل البضائع والخدمات السورية التي تجوب جميع أنحاء أفريقيا والشرق الأوسط.
وعندما اندلعت الحرب الأهلية باليمن عام 2015، اضطر لباد للانتقال مع عائلته إلى دمياط في مصر، حيث عاشوا مدة قصيرة في مساكن حكومية بين تجمع من حوالي تسعة آلاف سوري، لكن ثقافة كراهية الأجانب المكثفة ضد اللاجئين السوريين دفعت لباد إلى الانتقال إلى زنجبار، التي زارها لأول مرة بوصفه مورد أغذية عام 2008.
عمل لباد في عدد قليل من المطاعم، لكن أصحابها لم يلتزموا بإجراءات إقامته وتصريح العمل لإضفاء الشرعية على وضعه. وفي نهاية المطاف استثمر طبيب سوري يعمل في زنجبار في حلم لباد وساعده في فتح مطعمه الخاص في يونيو/حزيران 2017.
واجه لباد نكسات مالية خلال مسيرة عمله، دفعته للمبيت لمدة ثلاثة أشهر في صالون بغرفة وحيدة جمعته بخديجة.
أما اليوم فهو يعيش مع زوجته المغربية خديجة تحت سقف واحد مع طفلهم بصحة جيدة في شقة مستأجرة مقابل مئة دولار شهريا في ستون تاون، فامتلاكهما لعملهما الخاص مكنهما من الحصول على إقامة لسنتين مع تصاريح عمل.
ويقول لباد “حلمي هو الحصول على الجنسية التنزانية ومن ثم الاستقرار في زنجبار إلى الأبد”.
Sorry Comments are closed