كتبت آنا سبارو، الأستاذة في معهد الصحة الدولية في مدرسة الطب إيكان التابعة لمستشفى ماونت سيناي الأمريكية مقالاً في مجلة “فورين بوليسي” ناقشت فيه كيف تسهم المنظمات الدولية بدعم نظام بشار الأسد في حربه ضد شعبه.
وبدأ المقال بالحديث عن الغوطة الشرقية التي وصفت مرة بسلة غذاء سوريا ومنطقة زراعية يسكنها مواطنون من أصحاب العقلية الليبرالية وساسة ميالون للديمقراطية والتجار المستقلين ولهذه الأسباب يكرهها النظام. وكانت الغوطة هي مسرح الهجوم بغاز السارين في آب /(أغسطس) 2013 والذي قتل فيه 1446 في ليلة واحدة معظمهم من الأطفال والنساء. ووافق النظام في مرحلة ما بعد الهجوم التخلي عن ترسانته الكيميائية وبعدها توقفت الغارات على الغوطة لفترة من الوقت ولكن الجيش السوري بدأ في تشرين الأول/ (أكتوبر) 2013 بحصار الغوطة الشرقية. وكان الحصار جزءاً رئيسياً من استراتيجية النظام لمواجهة الانتفاضة السلمية التي بدأت في آذار/ (مارس) 2011 في مدينة درعا.
عقاب جماعي
وبحلول عام 2016 كان الأسد يحاصر أكثر من 1.2 مليون مدني في مناطق مدنية مثل حلب الشرقية وداريا ومخيم اليرموك. كذلك مارست الجماعات المسلحة سياسة الحصار، فقد حاصر تنظيم الدولة 80.000 نسمة في دير الزور. وحاصر مقاتلون 20.000 شيعي في قرى في محافظة إدلب. ويبلغ عدد المحاصرين اليوم 700.000 معظمهم في الغوطة الشرقية – 340.000 شخص.
ومع أن حصار المقاتلين يعتبر وسيلة حرب مشروعة إلا أن الأسد يستخدم هذه الوسيلة لتركيع المدنيين وعقابهم بشكل جماعي، وهذه جريمة حرب. فالقانون الإنساني الدولي يدعو إلى حرية حركة المدنيين ووصول المساعدات الإنسانية لهم. وتقول إن المسؤولية تقع على كاهل نظام الأسد إلا أن وكالات الأمم المتحدة التي تواجه وضعاً لا تحسد عليه في التفاوض مع النظام لعبت في الغالب لعبته. ومن هنا تبنى المسؤولون البارزون في الأمم المتحدة موقفاً يرى أن الخير الذي يحاولون عمله يبرر في النهاية الغطاء الذي يمنحونه لاستمرار الحصار وتعويق النظام لوصول المساعدات الإنسانية. مع أن الواقع يقترح غير هذا، ففي بلدة داريا التي لا تبعد إلا أميالاً عدة عن العاصمة دمشق تعرضت للحصار في عام 2012. وبرر النظام حصاره لها من خلال تصويرها بالقاعدة العسكرية ولهذا لم يسمح بدخول المساعدات الطبية والإنسانية إليها. وعندما استطاع مسؤولو الأمم المتحدة الوصول إليها في أيار/(مايو) 2016 صدموا عندما اكتشفوا أن من فيها هي مجموعة من النساء والأطفال والعجزة الذين لا يتجاوز عددهم عن 8.300 شخص.
سياسة الحذف
وفي مثال آخر اتفق مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية مع نظام الأسد على إجلاء المدنيين المرضى من أربع بلدات وهي مضايا والزبداني اللتان تحاصرهما قوات موالية للنظام وفوعة وكفريا المحاصرتان من قبل مقاتلين معارضين له. والمشكلة في الاتفاق أن نقل طفل مصاب بالتهاب السحايا أو امرأة تعاني من مشاكل في الولادة أو امرأة مريضة بسرطان الثدي لن يتم إلا عندما يمرض شخص آخر في البلدتين اللتين تحاصرهما قوات المعارضة، رغم تميز هاتين البلدتين بالحصول على مساعدات طبية وغذائية التي ترمى من الجو.
وبناء على ضغط من نظام الأسد أجبر مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية على حذف أي كلمة “حصار” أو “محاصرة”من خطة الرد الإنسانية التي أعدها المكتب عام 2016. ويمثل هذا اعترافاً تكتيكياً من النظام بأن ممارساته تمثل جريمة حرب واستعداداً من مكتب الأمم المتحدة التغطية عليها. ورغم أن نسبة المقاتلين في الغوطة الشرقية لا تتجاوز 5% إلا أن الحكومة رفضت السماح بإدخال المواد الطبية الضرورية. إلا أن الغارات الجوية السورية والروسية والتي استهدفت البيوت والمدارس والمساجد والمستشفيات والأسواق تعني أن معظم ضحايا الغارات هم من المدنيين. ويعتبر الأطفال والنساء الأكثر عرضة للهجمات والاستبعاد من الأجهزة الجراحية مثل نقل الدم وضخ السوائل عبر الوريد وتلك الضرورية للعمليات القيصرية. ومنذ عام 2013 أنفقت منظمة الصحة العالمية ملايين الدولارات نيابة عن وزارة الدفاع السورية لشراء أكياس الدم وأجهزة نقل الدم وفحص الدم لاكتشاف الأمراض النابعة من الدم مثل التهاب الكبد وأتش أي في.
وفي خطوة شريرة قامت قوات الأسد بمصادرة كل الأجهزة المرسلة لفحص «التهاب الكبد – ب» من الذهاب إلى مناطق المعارضة المحاصرة. وتقول سبارو إن “الحذف” هو قانون تمارسه السلطات الموالية للأسد على الأدوات الطبية الضرورية التي ترسل للمناطق المحاصرة. وبدأت وزارة الخارجية بتطبيقه أولاً ومن ثم وزارة الصحة التي لديها دائرة متخصصة بالحذف ومن ثم بدأت قوات الأمن بتطبيقها. وعندما توافق وزارة الخارجية على مرور قافلة تقوم وزارة الصحة باستبعاد مئات المواد الطبية تعتبر مهمة في مناطق الحكومة. ويتم استبعاد أجهزة التعقيم بحيث يضطر الجراح لاستخدام أدوات العملية بدون تعقيم بين العمليات.
وحتى بعد الانتهاء من عمليات الحذف الرسمية تقوم القوات الموالية للنظام على نقاط التفتيش بسحب المواد المتبقية مثل أجهزة غسيل الكلى أو تلويث المياه الغذائية مثل خلط الأرز ببراز الطيور أو قطع الزجاج. وتقول سبارو إن الدكتور الحجاج الشراع، مدير دائرة الرقابة في وزارة الصحة هو مدير مؤسسة الشام التي تعمل كشريك لمنظمة الصحة العالمية وتحظى بدعم من نظام الأسد حيث تستخدم مؤسسته المواد المستبعدة لمصالحها الخاصة. وهناك منظمة أخرى وهي البستان والتي يملكها ابن خال الرئيس الأسد، رامي مخلوف.
أنفاق
وبعد شتاء قاس ما بين 2103 – 2014 قامت المعارضة التي تسيطر على الغوطة بحفر أنفاق تربطها مع أحياء مثل برزة والقابون حيث كان ينقل عبرها المواد الغذائية والعينات المخبرية التي تحلل في مختبرات متعاطفة. واستمرت هذه الأنفاق في العمل كشريان الحياة للغوطة الشرقية لمدة عامين ونصف عام حيث وفرت العلاج لآلاف المرضى. وكانت الطريق الآمن للمدنيين الذين رغبوا بالخروج من المنطقة.
ومع سقوط حلب الشرقية نهاية عام 2016 أصبح البحث عن الأنفاق أولوية بالنسبة للنظام. وفي شباط /(فبراير) 2017 سيطرت قوات النظام على المخزن الذي يخفي المخرج للنفق الرئيسي بشكل لم يعد مستخدماً.
وفي نهاية أيار/ (مايو) تم خرق الأنفاق الأربعة وتدميرها حتى لا يستخدمها النظام كنقاط دخول إلى الغوطة الشرقية. وفي كل شهر كان الأطباء يرسلون التفاصيل عن الحالات التي تحتاج لعناية طبية عاجلة والأدوات الضرورية للجراحة والمواد الطبية مثل الأنسولين للمجموعة الطبية في دمشق التي تتعامل معها منظمة الصحة العالمية. ومع ذلك لم يسمح إلا لقوافل قليلة المرور إلى الغوطة، وكل ما كانت تحمله لا يمكن استخدامه لعلاج المرضى. وفي محاولة لتبييض الحصار وصف تقرير للأمم حجم المواد التي تم إيصالها مقارنة مع تلك التي تم حذفها تعطي فكرة أن نصف طن من الشامبو ضد القمل يساوي 500 كيلو غرام لمولد أوكسجين أو 50 كيلو غرام وزن كرسي متحرك أو 50 ميلمتراً من أدرنالين.
وترى سبارو أن حرمان الغوطة الشرقية من العلاج الطبي والطعام مثير للقلق لأنها لا تبعد إلا أمتاراً عن المختبرات المتخصصة والصيدليات في دمشق حيث مكاتب منظمة الصحة العالمية واليونسيف وغيرها من المنظمات الإغاثية التي تملك مخازن مليئة بالأدوية والمواد الإغاثية. ولا تبعد دوما إلا 10 أميال عن دمشق حيث مكاتب منظمة الصحة العالمية وفندق فورزيزون خمس نجوم الذي يرتاده موظفو الأمم المتحدة. وترى المجلة أنه من خلال دعم جيش الأسد الذي يستهدف المدنيين ويرفض الحصارات القاتلة تقوم منظمة الصحة العالمية برفع عبء شراء المواد نفسها. وتقول إن الأمم المتحدة تقوم بتوزيع نصف مساعداتها في دمشق بناء على طلب من حكومة الأسد مع أنه لا توجد أدلة عن وصولها إلى الذين يحتاجون إليها بشكل ماس.
وتبرر الأمم المتحدة هذ الوضع بأنه عبارة عن نوع من التقطير الذي قد يصل في النهاية إلى من يحتاجونه. ولكن هذه النظرية تتجاهل الدور الذي يلعبه الدعم في مساعدة حكومة الأسد على مواصلة جرائم الحرب التي ترتكبها ضد شعبها. وفي الوقت نفسه يستمر موت الناس الذين يجب أن يكونوا أولوية لمنظمة الصحة العالمية بسبب الغارات الجوية أو يتركون للموت بسبب الحرمان المقصود من الطعام والأدوية. وبعد أربعة أعوام ونصف من حرب الحصارات التي يمارسها النظام، فشلت منظمات الأمم المتحدة بمعالجة السؤال الأساسي فيما إن كان دعم الجرائم تحقق عملياتها في دمشق الخير أكثر من الشر.
Sorry Comments are closed