“ولكأن تجربة المعتقل تجربة من غير الممكن تدوينها، كما قلت آنفًا في كتاب، ولن ينجزها كاتب واحد بالتأكيد، ولأن كل ما يدونه المرء يتحول، شاء أم أبى، إلى نسخة ممسوخة بل مشوّهة من المعيش، لذلك ينبغي معاملة الكتاب، وكل ما يمكن أن يكتب عن السجون، كومضات ضوء تتوالى في العتمة، لن يتضح المشهد إلا بتوالي تلك الومضات وتكثيفها بتجارب متعددة بتعدد مسارات الطغاة، متنوعة بتنوع أساليب تعذيبهم وقمعهم، وعميقة عمق أقبية السجون”([1]).
مع أن الأعمال الأدبية للكاتبة السورية روزا ياسين حسن التي تناولت خبرات الاعتقال السياسي الخاصة بالنساء قد أعطت صورة مصغّرة عمّا يمكن أن يعنيه بالضبط أن يكون المرء معتقلًا سياسيًّا في حقبة حافظ الأسد، إلا أن عمل الكاتبة المعنون “نيغاتيف: من ذاكرة المعتقلات السياسيات/ رواية توثيقية” إضافة إلى رواية “حراس الهواء” يعدّان العملان الأدبيان الأكثر مضيًّا في تشريح هذه التجارب الخاصة بشكل توثيقي. ومع أن تجارب المعتقلين السياسيين تظل غير مكتلمة، مبهمة يشوبها التشوش وسوء الفهم في أجزاء كبيرة منها، أعطت روزا ياسين حسن، إضافة إلى عدد آخر من الكتّاب والكاتبات السوريين، عبر أدب الاعتقال والسّجن السياسي مثالًا في الإصرار على توثيق التاريخ السّوري للامتهان السياسي ونزع الإنسانية من أجل إخراجه من هوامش الوعي العام ونقله إلى متنه وقلبه ([2]). إن مهمّة سرد روايات المعتقلين السياسيين كلهم في السجون السورية لهي مهمّة تفوق في طاقتها الادّعاء بأن تلك التجارب لا يمكن التعبير عنها بكلمات ولا روايتها في جمل ([3]). بهذا يمكن ربّما فهم المعنى الكامن خلف عنوان الكتاب “نيغاتيف” أو شريط الصور الخام، الذي يجب أن يمر بمراحل مختلفة من التعريض والاضطهار الضوئي والمعالجة اللونية – بكلام آخر، تحويل المدوّنات الشخصية كلها واللّصاقات ومعالجتها، إضافة إلى الشّهادات الشفاهية والكتابية إلى صورة “واضحة/محسّنة” تعكس الواقع قدر الإمكان، أي القيام بعملية “تحميض” لما بين أيدينا من وقائع، بلغة خبراء التصوير الضوئي، وذلك من أجل الحصول على لوحات ذات ألوان واقعية، بحيث تعكس صورة شاملة عن العالم الأصلي الذي جرى تصويره من خلالها، إذ يمكن نقلها والتصريح بها كما تقتضيها طبائع الواقع ([4]).
كان الهاجس الأساس للكاتبة التي تعيش منذ سنة 2012 في ألمانيا أن تتحدّث عن تاريخ الاعتقال السّياسي في سورية ولكن من منظور نسوي محدد، ما يمدّ الخطاب الذكوري المهيمن في السرد حول السجن السوري نفحاتٍ من التجارب والروايات والأصوات النسائية اللافتة بحيث تقف جنبا إلى جنب على قدرٍ من المساواة ضمن هذا الخطاب المهيمن ([5]). بهذا السياق يمكن عدّ هذا النوع من الأدب محاولة من أجل إعادة إحياء ماضي العنف الذي ترك آثارا ورضوضا نفسية عميقة لمّا تزل حيّة في الحاضر المعيش، وتفحّص تفاصيله ووقائعة الأليمة الكامنة في العتم وذلك من أجل النجاة من عقابيله الذهنية والوجدانية والتحرّر منها. لكننا هنا أمام عقبات لا بد من اجتيازها في سبيل ذلك. مقابل هذا السّعي الملتزم في النبش الذاكري وإعادة إحياء الوقائع المؤلمة للماضي الغابر تتبدّى مقولة، لا تنقصها البراغماتية، مفادها بأن عملية “النسيان” لهي أسلم وأكثر أمانًا من أجل المضي في حياة أفضل، سواء للمعتقل ذاته على الصعيد الفردي أم للمجتمع عمومًا على الصعيد الجماعي. هذا الرأي لا يتفوّه به مرتكبو جرائم الماضي فحسب، بل ضحاياهم أيضًا. فالنسيان، يسمح بطيّ صفحة الماضي بشكل أقل وطأة واضعا حدودا أكثر أمنًا لها، فاتحًا سبلًا أمام البدايات الجديدة. بينما يؤدي الهوس في استحضار الذكريات وسيادة التذمر إلى عرقلة نشوء هذه البدايات ومنعه والانطلاق من صلبها نحو المستقبل ([6]).
هذا المسار يحيلنا على عوالم الأساطير والمعاني الكامنة وراءها كما في “أسطورة أورفيوس” اليونانية، حيث كان القدر في انتظار أورييدس، الجميلة التي لسعتها الأفعى حينما كانت تحاول الهرب من الاغتصاب، بينما قادت نظرة الحبيب إلى الوراء إلى كسر المحرّم المفروض عليه وخسارة المحبوبة إلى الأبد. بهذا أدى اختلاس النظر إلى الماضي (أي الالتفاتة إلى الوراء) إلى ضياع الحاضر والمستقبل في آن معًا. هذه الفكرة المحورية يمكن تلمّسها في صفحات الكتاب الأولى لياسين حسن حول التجارب النسوية للاعتقال السّياسي في محاولتها طرح الأسئلة الحائرة المتحلّقة حول التعامل مع مظاهر الاعتقال والسجن والتعذيب على الرغم من صعوبتها الشائكة. بكلمات أخرى، كلما كانت عملية إعادة إحياء ماضي الفرد والمجتمع شاملة، جذرية وواسعة، كانت عملية الهدم التي تطال مساحات من الشخصية والبنى الاجتماعية المتعلقة بها أعمق وأكثر جذرية، وبصورة ليس فيها عودة، ولا يمكن الشفاء منها تمامًا. لكن الأسطورة اليونانية بأشكالها ورواياتها المختلفة لا تطرح التساؤل حول مسألة ” الالتفات إلى الوراء” ومنعها، كبتها وجدواها فحسب، لكنها تجابه أيضًا مدى تلك الثقة الأساسية العمياء في القدرة على استجلاب المحبوبين (الموتى/ أورييدس) من أجل تحريرهم من سجون العالم السّفلي وعوالم الظل. ويبدو لي أن الأهم في هذا السياق مايأتي: أهم ما نستطيع فعله في أوضاع كهذه هو أن نبقى أناسا، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى وحياة وفاعلية، كما عبرت عن ذلك ياسين حسن في كتابها ([7]). إن المهمّة الرئيسة لـ “القدرة على الحياة” هذه، تعني بالضبط تلك القدرة على “تعلّم” أن نعيش هذه الحياة مجدّدًا، على الرغم من أننا نُعدّ أحياء على أرض الواقع. لقد أشار دريدا في كتابه الموسوم “أشباح ماركس” إلى تلك المعضلة وارتباطها بسؤال العدل والحق. لكننا لو نظرنا من وجهة نظر علاجية نفسية بحتة، نجد أن القصة لا يمكن تلخيصها بتلك الأولوية في السعي نحو العدل وإعادة التوازن صحيّا وعقليّا فحسب، وإنما تتعدّاها إلى تحرير العواطف والوجدانات الحبيسة من مثل الكراهية والغضب والحداد والانعتاق من حالة عدم الوعي المعيشة ووضعيات التصلّب وكأننا موضوعات جامدة، والانطلاق نحو القدرات الواعية على التواصل والمشاركة الذاتية الهادفة.
في الفقرات الآتية سوف نصب اهتمامنا على هذه الجوانب كما وردت في كتابي روزا ياسين حسن، محاولين تتبع السؤال حول كيفية عرض المعتقل/ السّجن بوصفه “مساحة مكانية” فيهما وكيف جرى التعبير عن ذلك على لسان الشخصيات الرئيسة التي طبعت هذين العملين. ماهي التقنيات الأدبية والروائية، إضافة إلى القوالب اللغوية والصيغ السردية التي استخدمتها الكاتبة من أجل عكس تجربة السجن في سياق جمالي مؤثر؟ فضلًا على اهتمامنا بالإمكانات التي تسمح بالتفهّم والتفاعل الوجداني بالشكل التي أمّنتها طريقة سرد الشخصيات عند القارىء (مساجين وسجّانين على حد سواء). من الطبيعي ألا يُستحضر الواقع بتفاصيله كلها من خلال هذه النصوص الأدبية فحسب. بدل عرض مفهومات عسيرة بشيء من التبسيط أردت عوضًا عن ذلك أن أمضي لأظهر كيف استطاعت الكاتبة من خلال النصوص السردية الحديث عن أوضاع مجتمعية وتجارب وخبرات حقيقة معيشة، بحيث يستطيع القارىء نفسه الخوض في هذه التجارب ومعايشتها كما عاشها أصحابها ذاتيًّا، أي الولوج إلى تلك التجربة الفريدة في عملية “تقمّص الاضطهاد السياسي” وجدانيًّا لو أردنا التخصيص. إذ على الرغم من الطاقة الذاتية الكبيرة وخصوصياتها الفردانية التي تحملها هذه النصوص إلا أنها تمتلك تلك الشرعية النّابعة من مدد كبير من الوثائق والسّير الذاتية بحيث يمكنها الإفصاح بجزء من التاريخ الاجتماعي السوري والكشف عنه، بحيث تمسي مهمة الكاتبة هنا جمع هذه الدقائق والتفاصيل والأزمنة والحوادث المتّصلة بالذاكرة الشخصية في سياق توثيقي حريص، بدلًا من ابتداع قصصٍ من محض الخيال عنها.
الشهادة والأدب؛ البحث الاجتماعي التجريبي ([8]) بوصفه سردًا أدبيًّا في “نيغاتيف”
في مقدمة الكتاب تفصح ياسين حسن عمّا يأتي “كان يمكن أن يستمر لسنوات أخرى، ذلك أن عدد المعتقلات اللواتي رحت أكتشفهنّ كل يوم، كان يزداد ويزداد، هذا ما جعلني أضطر لحصر العدد وإلا فلن ينتهي الكتاب”([9]). هناك كثيرات من النساء السوريات اللواتي خضن هذه التجربة وبخاصة “الإسلاميات” منهنّ، لم يكنّ حتى قادرات على الحديث عن مأساتهن بسبب الرعب الكبير الذي عايشنه. لذلك يقدم الكتاب شهادات وروايات عن نساء كنّ يُحسبن على التيار الشيوعي أو كنّ أقارب لناشطين سياسيين مطلوبين بوضعهنّ رهائن من أجل الضغط على أقاربهنّ من الرجال أو على الأحزاب التي ينتمون إليها. كانت الشهادات التي تعود إلى المعتقلة السابقة أناهيد ب. التي سجلت خبراتها وخبرات المعتقلات الأخريات من أغان وأشعار وذكريات وصور، إضافة إلى وصف لمواقف محددة، كانت هي الأساس الذي قام عليه العمل السردي هذا من ناحية توثيقية بحتة. بعض الفقرات من مذكرة أناهيد الشخصية/Kalender التي دُوِّنت بخط اليد جرى الاستشهاد بها ووضعها كاملة بالحرف في بعض أجزاء الكتاب وقد أشارت الكاتبة إلى ذلك ([10]). وجدنا الكاتبة تغير سياق السرد الشخصي بين الحين والآخر من أجل إعطاء القرّاء فرصة لوضع أنفسهم في موقف صاحبة التجربة نفسها، والدخول في عمق الحادثة ومعايشتها ذهنيًّان وذلك من أجل إيجاد مساحة أكبر للتماهي وجدانيًّا مع النصوص المقروءة، وتجارب أبطالها وبطلاتها المسطورة في كلمات ([11]).
سنلاحظ أن الموضوعات والجوانب الآتية هي التي كان يتحلّق الكتاب بالمجمل حولها: التعذيب ومعايشة تعذيب أقرباء المعتقلين، الحياة اليومية في المعتقل، طبيعة الناظم اليومي وتفاصيل السجن، العلاقات الاجتماعية بين المعتقلات من النساء، كذلك العلاقات بين المعتقلات أنفسهن والأمراء والقائمين على السجن (هنا أيضا نجد بعض القصص عن حالات حب بين المعتقلات والسّجانين وبعض محاولات هؤلاء لتفّهم أوضاع المعتقلات من ناحية عاطفية ومساعدتهن بتحسين أوضاع السجن)، كذلك سنجد فرصة لتتبع إستراتيجيات القائمين على السجن التي كانوا يتبعونها بوصفها نوعًا من “الحرب النفسية” ضد المعتقلات، وكانت غالبًا ما تسفر عن تداعيات وانهيارات نفسية شديدة القسوة والمضار، إضافة الى العلاقة التي تجمع السجينات من خلفيات سياسية وأيديولوجية متنباينة بعضهنّ ببعض، وأخيرًا سنرى ظاهرة وجود الأطفال في المعتقلات، أولئك الذين ولدوا في السجن، وتعين عليهم أن يقضوا جزءًا من طفولتهم مع أمهاتهم في هذا المكان الخاص. خصّص أيضًا جزء ليس باليسير من الكتاب من أجل عرض رسائل كتبت من المعتقلات أنفسهن، بينما قامت الكاتبة ياسين حسن بإعادة الصّوغ والإخراج بطريقة جمالية وأدبية حسنة الصنع. كذلك نجد أيضًا رسائل كتبت لأصدقاء ومقربين في الخارج عن عوالم السجن الداخية، لم يكن فيها دعوات إلى الصمود وتذكير بالقوى والمواجهة فحسب، بل أتت على التعذيب والضغوط النفسية التي لا تحتمل أيضًا. في الآتي من المقال سوف نأتي على هذه الجوانب من الكتاب التي عكست مصائر تلك النسوة بطريقة أقرب.
التعذيب وعقابيله
على الرغم من حالات التعذيب الكثيرة التي تطرق إليها الكتاب، إلا أنه لم يكن هناك حيّز مواز للآثار النفسية التي تتركها تجارب التعذيب الوحشية هذه في السجون السورية الرسمية على المعتقلات من النساء. قد يكون لهذا مغزى يمكن فهمه وهو تعمّد الكاتبة عدم الغوص في الأمور النفسية لدى الضحايا وتجنب تقديم تشخيص عيادي أو طبيّ نفسيٍ ما. لعل هناك استثناء واحدًا في ما يخص حالة واحدة جرى فيها الحديث عن المعتقلة مجد أ. بشيء من التخصيص السايكولوجي، إذ تعرّضت هذه المعتقلة إلى تعذيب شديد على مدى أسابيع طوال، كان منها الضرب المبرح على الرأس مباشرة، ما أدّى إلى تداعيات نفسية وعصبية شديدة الأثر فيها، ودعى إدارة السّجن إلى عرضها على مصحّ عقلي قسريًا، إذ جرى تحويلها إليه. هناك تعرّضت على ما يبدو لجلسات متكررة من العلاج بالصدمات الكهربائية، بحيث لم يترك ذلك شرخًا عميقًا بين النفس والجسد عليها فحسب، وإنما أدى أيضا إلى تطوّر حالات من الهيستيريا، كانت مجد تحاول فيها ابتلاع لسانها:
“الحالة تتطوّر من سيء إلى أسوأ، خاصّة حين أخذت مجد، بعد طول مطالبات، إلى المشفى للعلاج حيث كانت الصدمات الكهربائية هي العلاج الوحيد! أعطيت الصدمات العلاجية لمجد بطريقة التعذيب نفسها! تدهورت حالتها أكثر فأكثر، وهذه المرة فقدت القدرة على النطق والمشي، ثم أعيدت إلى المزودجات نحيلة بشكل فظيع…ثم بدأت محاولاتها لابتلاع لسانها خصوصا في حالات الهيستيريا ([12]).
حتى السجينات الأخريات اللواتي حاولن تقديم العون والدعم لمجد في حالاتها المرضية، واللواتي وقفن إلى جانبها بدأن يعانين هنّ أيضا من مشاكل نفسية وجسدية وبدأن يذهبن معها الى الجنون”([13]). “قامت إحداهنّ وتدعى لينا بتهريب رسالة إلى أختها الطبيبة خارج السجن تحاول فيها أن تشرح حالة مجد علّها تحظى برأي أو مشورة أخصائية لوضعها الآخذ بالتعقيد”. في إحدى حواشي الكتاب ([14]) عرضت الكاتبة القصة المرضية لمجد بشيء من التفصيل كما جاء في الرسالة المرسلة من لينا:
مجد. أ: معتقلة سياسية من مواليد 1966 اعتقلت في سنة 1989 وكانت في السنة الثالثة من دراستها الجامعية. واعتقلت أختها في إثرها (ميادة) وهي في الصف الثاني الثانوي، لتبقى أشهرًا في السجن، ثم يطلق سراحها. بعد الاعتقال بثلاثة أشهر تلقت مجد ضربة من قبل أحد المحققين على رأسها، أدت إلى حدوث كدمة دموية في الرأس سببت لها مشكلات عصبية ونوبات صرع شديدة في الفرع. صارت تؤخذ إلى المشفى كل مدّة وتعود إلى السجن. ثم جلبوا أمها لتجلس معها مدة شهر كامل سجينة في المستشفى، لأن وضع مجد أضحى صعبًا للغاية. أطلق سراحها بعد سنة وشهرين من الاعتقال وذلك في سنة 1990. بقيت تتعالج من سنة 1990 حتى سنة 1995، ثم استطاعت الحصول على جواز سفر للخروج إلى بلد مجاور لاستكمال العلاج. وهناك استطاعت أن تحوز على اللجوء السياسي في أوكرانيا، ومن ثم في الولايات المتحدة حيث تعيش مجد الآن لاجئة سياسية في مدينة هيوستن الأميركية.
لم يكن ليكتب لهذه المرأة الحياة وسبل العيش والنّجاة بعد هذه التجربة المؤلمة إلا عندما أمكن لها أن تغادر البلاد. هذا المصير تكرر أيضًا بصورة متشابهة لبعض الشخصيات في رواية “حرّاس الهواء”، مثل جواد، زوج عنّات الذي أظهر عدم رغبته في البقاء في سورية ونيته المغادرة طلبًا للجوء إلى السويد. بالنظر إلى التجربة التي تعرّضت لها مجد تطرح الكاتبة تساؤلًا حول الإمكانات الحقيقة المتاحة للمرء لنسيان مأساة مرعبة مر بها كالتعذيب والتعنيف، وتستشهد بما جاء في إحدى المذكرات التي خطّتها المعتقلة الشاهدة ناهد ب.: “كيف سيستطعن جميعا حتى بعد سنوات من الإفراج عنهن، محو مجد أ.. من الذّاكرة؟”. كان الجواب على هذا السؤال البلاغي بأن ليس هناك فعلًا إمكان لنسيان ذلك. لقد كانت هذه التدوينات بمنزلة محاولات للتوثيق ولمقاومة النسيان والتلاشي، كما عبّرت عن ذلك ناهد في إحدى ملاحظاتها في دفترها الخاص “كانت تشعر بأن كل ما حدث هناك سينسى إن لم تكتبه، سيضيع في الحقيقة، وتنشله الأيام من الذّاكرة مهما كان راسخا”.
وبشكل مغاير عمّا جاء في رواية ياسين حسن “حرّاس الهواء” لم تتطرّق “نيغاتيف” إلى الحياة النفسية لتلك النسوة بعمق وإنما حاولت النظر إلى أوضاعهن التي عايشنها في ذلك المكان عمومًا. وبذلك حاولت الكاتبة قدر الإمكان الامتناع عن تطبيق الأدوات الأدبية في توصيف الشخصيات والحوادث بطرائق تستلهم من الخيال وذلك من أجل المحافظة على الأولوية التي وضعتها لسرد جزء من التاريخ السوري بحذافيره الحقيقة كما هي بأمانة. كانت الكاتبة واعية تماما إلى عدم اللجوء الى التنميط مع المحافظة على شيء من المساواة بين الروايات التي عرضتها السجينات بحيث لا نجد “بطلًا” وحيدًا على طول السرد ومنحنياته. بهذا استطاعت الكاتبة المحافظة على فرادة التجارب الشخصية مع الأمانة في الإخبار التوثيقي المتصل بهذا وذاك. وبعد أن امّحت شخصيات السجينات بإعطائهنّ “أرقاما” جافة للإشارة إليهنّ من سجانيهن في المعتقل، وتحوّلن بتلك العملية المهينة إلى محض “أشياء” لا روح فيها([15])، كان أسلوب الكاتبة في تأكيد الأسماء خلال سرد التجارب الشخصية فردانية الطابع، محاولة هادفة من أجل التخفيف من عملية نزع الإنسانية التي مررن بها شيئًا فشيئًا. بدل اللجوء إلى الخيال لجأت الكاتبة إلى بيانات أصلية ووقائع حقيقية شغلت فيها الأغاني والأشعار نصيبًا جيدًا منها. بالاعتماد على القيمة التي أولتها السجينات لتلك الوقائع، وفقت الكاتبة بتحويل تلك المواد الخام الخاصة بالنسوة السجينات إلى نثريات شعرية وجمالية، تمتلك طاقة كبيرة من العواطف والوجدانات الحبيسة المنطلقة بانسياب وحرية، بعد أن أرهقتها ممارسات التعذيب وحطّمتها معايشة تجربة السجن الرهيبة ([16]).
وبسبب تنوع الحوادث المحكيّة وتحييد الخيال السردي وتحقيق التوازن القائم بين مستويات مختلفة من الأصوات يمكننا الحديث هنا عن إنجاز شيء هو أقرب إلى السرد التوثيقي منه إلى الرواية التوثيقية ([17]). كان التغيير المتكرر لوجهة السرد ليكون بلغة الأنا – الرّاوية هو أكثر التقنيات الأسلوبية التي تم استخدمتها الكاتبة وذلك من أجل رفع منسوب التماهي مع الشخصيات المحدّثة مع تدخّل سلس بين الحين والآخر للتعليق على مقطع أو فكرة أو موقف معين بصورة بلاغية وجيزة. بذلك يمكن القول إن العمل “نيغاتيف” قد استغنى عن التدخّل الخيالي والإبداعي للحوادث والوقائع مستعيضًا عن ذلك بالتركيز على الحيز المعيش من تجارب السجينات، من دون حتى بذل أي محاولة للتوضيح من وجهة نظر اجتماعية سياسية أو حتى أخلاقية، أو وضع كل ذلك في إطار تفسيري معيّن. لقد حافظ السرد في هذا العمل على طابعه التوثيقي، بينما تُركت للقارئ عمليات التفسير والتوضيح لتلك الحوادث والقصص بحيث يمكن أن تفهم ضمن إطار تاريخي وسياسي يخص البلاد ومن عاش فيها. لكننا سنجد بعد قليل أن الكاتبة قد اختارت طريقا مغايرا في عملها “حرّاس الهواء” للحديث عن مصائر المعتقلين السياسيين عمّا جاءت به في “نيغاتيف”. هنا سأحاول شرح ذلك.
التخييل الرّضي لتجربة المسجونين السياسيين في “حرّاس الهواء” وحياتهم بعد ذلك
بينما تحلّق العمل “نيغاتيف” حول أزمنة الاعتقال وتجارب المسجونات النسوة بالدرجة الأولى، نجد أن رواية “حرّاس الهواء”([18]) التي ظهرت بعد عام واحد من ظهور “نيغاتيف” تدور حول موضوع السجن والاعتقال عند الرّجال هذه المرة. هؤلاء الذين تعيّن عليهم مكابدة العنف المسلّط عليهم وإجتراح الألم وتحمّله، في ما بدا النسوة والأطفال من عائلات المعتقلين في هذا العمل يؤدون أدوار المنتظرين والمتعلقين بهم من خلال الزيارات. لقد تعين على النساء بهذا الوضع تدبير الحياة وشؤونها من دون وجود أزواجهنّ، بينما كان يتوقع منهن أن يضبطوا إيقاع حياتهن في ضوء إمكان خروج الرجال ومواقيتها التي لا يمكن التنبّؤ بها. وبالمسايرة مع تناول حياة السجن تذهب الرواية إلى تتبع المسارات والأزمنة التالية للتحرير والإفراج عن المعتقلين، تلك الحقبة التي كانت غائبة في “نيغاتيف”. إذًا غالبًا ما ينتهي الاعتقال بأضرار جسدية ونفسية لا قرار لها، وبشكل لا يعوق حياة الناس بعد الخروج من تلك التجربة فحسب، بل يظهر الأبعاد اللاإنسانية المدمّرة لتجربة الاعتقال السياسي لمن قدر له وعاشها يومًا ما.
في قلب الحكاية تقف عنّاة إسماعيل، الفتاة التي كانت تعمل مترجمة في السّفارة الكندية في أثناء مقابلات طالبي اللجوء الذين ينحدرون من بلدان مختلفة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. بينما كان زوجها جواد معتقلًا سياسيًّا ومعارضًا يساريًّا كان أن قضى عشر سنوات من عمره في السجن، حيث كانت تعيش زوجته الشابة مع والديها، حيث توفت أمها أثناء ذلك وقضت بقية مدة غياب زوجها مع أبيها، لم تستطع فيها زيارته إلا مرّات قليلة في أثناء مدّة الاعتقال. هنا نجد بأن الأمل بالحياة كان الطابع الذي صبغ سنوات طويلات من الفرقة والانفصال، إذ كان قدرهما أن يعيشا حيوات شديدة التباين خلّفت وراءها خبرات لا تقل شدة في الاختلاف والتباين لدى كليهما. بعد مدّة وجيزة من التحرر والخروج من السجن تبيّن لهما، كما تبين لزوجين آخرين كان الرجال فيها أيضًا في السجن، بأن مدّة الانفصال الطويلة هذه قد ألقت بظلالها على أشياء كثيرة لعل أهمها العلاقة التي كانت تجمعهما، إذ لم يكن ذلك الأمل بحياة جديدة يجتمعان فيها بعد طول فراق سوى وهم خادع. لقد تبين لهما على نحو شديد القسوة بأن هذه التغيرات والمستجدات التي أتت بها الحوادث والأيام لم يكن من الممكن التعبير عنها بالكلمات واللغة المنطوقة. كان جواد ينسحب شيئا فشيئا من العالم الخارجي إلى دواخله الدفينة، بعد مدّة أخذ في قرارة نفسه العمل على السفر خارج البلاد والتقدم بطلب اللجوء إلى السويد، وما كان له إلا أن وضعها في موقف لا ثالث لهما: إما أن تذهب معه إلى أوروبا وتصبح لاجئة مثله أو أن تبقى هنا وحيدة من دونه. هنا قررت عناة أن تلتزم الخيار الثاني وتبقى في بيت أبيها الذي يعاني مرضًا قلبيًا، لكن حدث شيء درامي هنا، إذ حملت منه في ليلة السفر! خلال مدّة الحمل الممتدة على مدار أشهر تسعة استرجعت عناة حوادث مفصلية من حياتها وحياة عائلتها، خصوصًا حياة والديها، إذ كان لأمها صراع مرير مع مرض السرطان فقدت فيه المقاومة في العناية الفائقة، وتوفيت في إثر ذلك. استرجعت أيضًا قصصًا لأصدقاء لها كان لهم القدر نفسه من السّجن السياسي لأزواجهنّ، إذ لم يعودوا فيها كما كانوا من قبل، في ما أسهمت سنوات الفراق والانفصال إضافة إلى التعذيب وآثاره في تحطيم ما بقي من العلاقات وفشلها في نهاية المطاف. في مونولوج داخلي مميّز تحدّثت عناة عن رغباتها وحاجاتها العاطفية والجنسية، عن أشواقها وآمالها فضلًا على انتقاداتها لمحيطها القريب وللمجتمع أيضا. عند نهاية حملها قدمت عناة استقالتها من العمل، إذ لم تعد تستطيع احتمال الروايات الأليمة التي كان يدلي بها مقدمو طلبات اللجوء يوما بعد آخر. وشيئًا فشيئًا بدأت بالانسحاب هي الأخرى من العالم، إلى أن جاء وليدها في يوم أصيب فيه والدها بالذبحة القلبية للمرة الثالثة. على وقع هذه الحوادث الحرجة، مصير والدها ومستقبل أبطالها المفتوح على الاحتمالات، انتهت الرواية على مشهد نوم عميق غطت به الأم اليافعة، تاركة وراءها كل الهموم والمخاوف في سبيل فسحة من الراحة.
على الرغم من النهاية الغامضة والمفتوحة لمجريات الأمور كان النوم العميق هو الحدث الذي انتهت به الرواية، بحيث استحق السرد الرضي للأزمات النفسية هنا معنى الخطاب بكل ما يحمله ذلك من إمكانات للمصالحة، أو بالأحرى للانعتاق والخلاص، وهكذا يكون استدراج النسيان أو احتمال الموت الوسيلتين الوحيدتين المتبقيتين عند الإنسان من أجل مواجهة الصدمات والرضوض النفسية والتغلب على تداعياتها الفاجعة.
لقد كان قدر عنّاة من خلال عملها في السفارة، تمامًا مثل رئيسها في العمل جوناثان، أن تكون شاهدة ومحطّة توثيق لكثير من القصص والمعاناة التي أتى بها لاجئون كثر من الشرق الأوسط والمشرق العربي، ضحايا الدكتاتورية والحروب الأهلية والامتهان الجنسي. لقد استطاعت الكاتبة عبر وقائع سردية مختلفة نقل معاناة هؤلاء وقصصهم المروعة وصدماتهم النفسية العميقة والتذكير بها ما أمكن من تفاصيل في قالب روائي موفق. بذلك تتبّعت الكاتبة سبلًا واتجاهات عدة/([19]) muli-directional، تصب جميعها باتجاه نبعٍ واحدٍ عبر حديثها عن خبرات البشر، سوريين وعرب، إضافة إلى تجارب رضّية لشعوب أخرى من الأقليات غير العربية من أبناء المنطقة (مثلًا أكراد وتركمان)، وغيرها من بلدان الجوار وبشكل استطاعت فيه الكاتبة إبراز المصائر والمعاناة الإنسانية الرهيبة بطريقة عادلة في السرد، بلا تفضيل لمعاناة على أخرى ولمصائب قوم على أخر. لقد استطاعت الكاتبة أيضًا أن تتفادى الحديث عن الصّدمات والرضوض النفسية بتجريد، مستعيضة عن ذلك بمنهج توثيقي له الروح نفسه الذي استُمد منها عمل “نيغاتيف”، إذ جرى الحديث عن هذا بلسان الشخصيات نفسها مع بناء متشابك من الشخصيات وتركيز أكبر على العالم الذاتي لكل الأبطال التي وردت فيها. هذا كله جعل من هذا العمل عالمًا روائيًا كاملًا. بينما رُفد المنهج التوثيقي في المتن عبر الإشارات والهوامش أو عبر حوارات باللغة الإنكليزية أو حتى بخطابات وفقرات ليس فيها نسائم أدبية (مثل تقارير منظمات حقوق الإنسان، أو نصوص تحوي معلومات علمية تدور حول علم النفس والعلوم الاجتماعية إضافة إلى وثائق تاريخية). ذلك التدوير السردي كله من أجل إعطاء المحتوى العام للعمل روحًا حقيقة أقرب للواقع.
لم تعد المترجمة الشابة التي باتت هي نفسها ترزح تحت وطأة معاناتها الشخصية قادرة على القيام بعملها الذي يتطلب أيضًا قدرًا من مواجهة قصص ومرويات تنضح بالصدمات النفسية الخاصة بطالبي اللجوء، وما يترتّب على ذلك من مواجهة مباشرة مع العواطف والأحاسيس الهيّاجة الخاصة بالنفس والآخرين. لقد تبدى لها مدى الصعوبة الكبيرة في الفصل بينها وبين مصائر هؤلاء وقصصهم الرضّية المؤلمة، وكأن العالم قد تحوّل من حولها إلى غرفة للتعذيب. كان للقصة الأخيرة التي عُرِضت في الرواية وتدور حول اللاجئة الكردية فتحية وقع كبير عليها، إذ شعرت المترجمة الشابة، التي تتراكم الضغوط عليها، بمزيج من المشاعر شديدة التناقض، بدأت تتسرب منها تجاه طالبة اللجوء، من كراهية وإعجاب مع شعور كبير بالنقص. تعرف هذه الحالات من التواصل المهني في أدبيات التحليل النفسي “بالانتقال المضادّ/ المعاكس/ Countertransference”([20]). هذا هو الحدث المفصلي الذي دفعها الى تقديم الاستقالة من العمل. لقد أدت لفحات وارتدادات الصدمات النفسية التي كانت تجتاحها بشكل خاطف في أثناء العمل إلى وضع صعب يكون فيه مقدم المساعدة نفسه بحاجة إلى مساعدة للتغلّب على آلامه والضغوطات النفسية الخاصة به. بهذا الوضع يصبح الشخص عاجزًا ليس عن التعامل مع مشكلاته وآلامه فحسب، وإنما عن التعامل مع مشاعر مقدمي طلبات اللجوء وأحاسيسهم، بحيث يجري تجاوزها والمرور عليها بسلبية لا تبدو مهنية على الإطلاق. وهكذا اعترف جوناثان في نهاية الرواية بأنه “لن ينسى أبدا ما عاشه هنا، لن ينسى هذه التجربة المريرة، وربما سيضطر طيلة ما تبقى من حياته، إلى التردد بشكل مواظب على طبيب نفساني، ربما يستطيع العودة بعدها للعيش بأمان مجددا”. هذا يذكرنا بقصة المعتقلة مجد في “نيغاتيف” التي تطورت معاناتها وأزماتها النفسية من جرّاء عمليات التعذيب الشديدة عليها لتتساقط على المحيطين حولها الذين رعوها في المعتقل ممن لم يتعرضوا لتعذيب مشابه.
يومًا بعد آخر بدأ يتبدى للمترجمة عنّاة ولرئيسها الكندي أيضًا بأن طريقة توجيه الأسئلة التي عادة ما يجري اتباعها في مقابلة اللاجئين واستقصاء قصصهم تقود هي أيضًا إلى تفعيل الذكريات المرتبطة بالرضوض والصدمات النفسية عندهم. طالبو اللجوء هؤلاء، الذين كانوا غالبًا ما يحتاجون إلى تدخّلات علاجية للتخفيف من آلامهم، كانوا يتعرّضون من خلال بروتوكولات الاستجواب الخاصة باللجوء إلى فيض كبير من المواجهة مع قصصهم ورضوضهم وصدماتهم المرعبة التي عايشوها ويهربون منها في مواقف مغايرة. هنا بالضبط تكون المأساة والتناقض في الموقف. من المثير هنا أن الكاتبة استطاعت أن تبرز أعراض الرضوض والصدمات النفسية عبر إطلاق شخوص الرواية للحديث عنها ووصفها بوضوح. لعل قصة عائلة عنّاة نفسها التي تملك عناصر الصّدمة النفسية كلها (زواج الأم جميلة المبكر، موت الأخت سنية وانتحار الابنة صباح)، إلا أنها لا يمكن إدراجها تحت نطاق الصدمة النفسية لانتفاء المعايير التشخيصية في الطب النفسي التي تحدد معنى الحدث الصادم كما هي الحال في القصص التي يقدمها طالبو اللجوء هنا. قصص ومصائر كهذه تبقى غير مرئية ولا مدركة للغير، على الرغم من كونها حية وباقية في أنفس أصحابها وأفراد عائلتهم فضلاً عن آثارها السلبية المديدة على حياتهم ([21]).
لم تكن رواية “حرّاس الهواء” جردة حساب مع الأوضاع السياسية المحرّضة على الصدمات والأزمات النفسية في سورية وعلاقتها بالاستبداد السياسي لحزب البعث الحاكم فحسب. إذ استطاعت بطلة الرواية وذلك بترجمة معاناة اللاجئين العراقيين والسودانيين وغيرهم من دول الجوار، أن تكون على تماس مباشر مع عالمين متجاورين من الضغوط والآلام، عالمها الشخصي الذاتي الخاص بعائلتها من جهة وعالم هؤلاء المليء بالصدمات والرعب. كانت تحاول المضي على طول الرواية على خط فاصل يمازج بين دقائق الحياة العادية السورية من جهة وتفاصيل الخبرات الرضّية في المشرق وشمال أفريقيا من جهة أخرى. هنا تراءى لها يومًا بعد آخر بأن الجروح النفسية غير المرئية في الروح والنفس لا يعتد بها ولا ينالها الاعتراف والتقدير في أدراج المؤسسات الرسمية ومعاييرها، مقابل الأضرار الجسدية التي تعدّ هي فقط ساحة العلامات والبراهين التي يمكن الاتكال عليها في تقرير قبول حالات اللجوء من رفضها. هذا لا يخص المعتقلين السياسيين في سورية فحسب وإنما حالات أخرى من اللاجئين الذين التقت مصائرهم عندها:
“على كل التقارير الطبية أن تبين دوما التبعات الجسدية لما تعرض له طالب اللجوء! التبعات الجسدية فحسب، وربما التبعات النفسية الواضحة، أي التي تحوّلت إلى أمراض عصبية مشخّصة جليّة، لكن ثمة كثير من طالبي اللجوء شوّهوا، مزّقت دواخلهم وعطبت أرواحهم، من دون أن يكون هناك علامات على أجسادهم! كم كانت فرصة هؤلاء أقل! ذلك أن كل ما يقولونه كان يوضع في زاوية التشكيك” (حرّاس الهواء، ص 14-15).
لاحقًا يجري التعبير عن ذلك بالطريقة الآتية:
المشكلة أننا لا نستطيع الاقتناع إلا بالويلات التي تترك علاماتها على أجسادنا! لا نستطيع أن نستوعب إلا مكان القيد الذي حفر على رسغي جواد وترك ندبته إلى اليوم. لا نفكر إلا بعذابات سجنه وعذاباته المتراكمة. إنها كوارث بالتأكيد، لا أبخس ذرة من الأمر، لكن العطب الداخلي الذي طال كثيرات منا من سيتلمّسه؟!
فكرة تخطر في بالي في كل مقابلة أترجمها وأنا أرى طالبي اللجوء يستميتون لإقناع السفارة بالموافقة. حقيقة، ولم يكن ينبغي أن أهمل المسألة، يد مقطوعة أو قطعة محروقة من جسد كفيلة بإخراج اللاجىء على الفور من جحيمه. فيما لا نستطيع أن نحفل بروح كاملة متفحمة ومتآكلة في داخله (حرّاس الهواء، ص 246).
هذه هي بالضبط الجروح غير المرئية التي تؤدي إلى تحطيم العلاقات، علاقات المعتقلين الخارجين للتو من عالم السجن، المهدّدين بوجودهم، والذين تتعرض كرامتهم للامتهان بصورة متواصلة بعد السجن أو بعد المرض. هنا تبدأ دورة جديدة من تهدّم المداميك الاجتماعية التي تؤدي بدورها الجديد إلى إطلاق دفقات من العنف، من الأضرار الآتية ومن اغتراب العلاقات الإنسانية وعدم القدرة على التواصل بين الناس. يلزم هناك كثير من الزّمن حتى تندمل الجروح. في أجواء كهذه، يقرر جواد أن يأخذ مسافة من كل ما حوله، ويقرر الانسحاب إلى عالم جديد علّه يجد نفسه فيه مجدّدًا، على الرغم من قناعته بصعوبة أن يكون المنفى مكانًا ملائمًا لاستعادة الصحّة، نظرًا إلى ما يحتويه موقف النفي من عزلة اجتماعية وفَقْد للثقة والألفة. هل يا ترى كان يمكن أن يغيّر رأيه في ما يخص سعيه نحو المنفى في ما لو كانت عنّاة قد أخطرته بأنها تحمل في أحشائها طفلًا منه؟ هذا السؤال يبقى في الرواية مفتوحًا بلا جواب. قبل الولادة بقليل استطاعت الأم أن تستجمع قواها وأن ترسل إليه برسالة إلكترونية تخبره فيها أنه سيصبح أبًا بعد مدّة وجيزة، وذلك بعد أن قرأت آخر رسالة أرسل بها إليها يسطر كلمات دافئة يخرج منها الحب، وعاهدته فيها على أن تنتظره إلى الأبد. بهذا المشهد الحر والمفتوح تؤكد الرواية نهائيًا القوى الداخلية التي يتمتع بها الناس المصدومون، وذلك بكسر جدُر الصمت التي رفعتها الصدمات النفسية والعودة إلى أخذ زمام المبادرة في الحياة.
بشيء من استشفاف المستقبل، قدمت الرواية التي سطرت سنة 2009، نُذُرا مبكّرة من الوقائع التي تكشّفت لاحقا مع بدء الانتفاضة سنة 2011، إذ تصاعد عنف النظام البعثي الحاكم وانفجرت كارثة اللاجئين بعد أن قاد البلاد إلى الحرب. من بلاد كانت هي نفسها موئلا وملاذا للاجئين، إلى بلادٍ أصبحت هي المصدر الأول للاجئين في العالم كما نشهد الآن. هذه الوقائع الحالية عالجتها الكاتبة روزا ياسين حسن أيضا بعد صدور رواية جديدة عن منشورات دار الجمل تحمل عنوان “كمن مسّهم السحر”. هنا نجد موطئًا للتداعيات النفسية المدمرة التي خلّفها نظام الأسد الدكتاتوري، جنبًا إلى جنب مع الطريقة التي جرى فيها قمع الثورة السورية، سواء في المستوى الجمعي أم في المستوى الفردي، سعيًا نحو عرقلة تغيّرات مجتمعية هائلة.
أدب السجون بين التخييل والتوثيق
في تخلّيها الواعي عن عملية التخييل في عملها “نيغاتيف” الذي أتينا على بعضٍ من أجزائه آنفا، استطاعت روزا ياسين حسن أن تبرز المحتوى الواقعي لعملية التوثيق في تلك الشهادات التي تم قُدِّمت بطريقة أمينة. فمن خلال عدم اللجوء إلى شخصيات رئيسة إضافة إلى سرد العوالم الداخلية لتلك النسوة بلا اصطناع حدثيّ روائي، ثمّنت الكاتبة وقدّرت من شأن الحيوات الشخصية لمن أخرجت تجربتهم من النساء بعد أن محت مدد الاعتقال وشروط السجن كل ما يمت إلى الحيز الشخصي لهنّ بصلة ([22]). يمكن القول إن السياق العام للعمل قد تطرق إلى الموضوع بمهنية وحرفية كبيرة مع لمسات حانية من الاقتراب من مناطق وهوامش بطريقة أخلاقية ليس فيها أي تبرير أو اصطناع. لم يجر ابتسار واختصار تجربة تلك النسوة على أنهنّ بطلات، وإنما نُظر إليهن بصفتهن بشرا عاديين تعرّضن لدرجات قصوى من الظلم، إذ استطعن من خلال البوح المباشر من امرأة إلى امرأة، أن يسردن نماذج مختلفة من التعامل والتعايش مع أوضاع السجن اللاإنسانية الصعبة وبطريقة تمكنّ فيها إظهار سطوة النظام بطريقة فيها طاقة كبيرة من الصدقية.
من جهة، استطاع السرد النثري التخييلي أن يظهر الوقائع والحوادث والتفاعلات الاجتماعية بين البشر في المواقف المبتكرة الكثيرة بطريقة نفسية فردية، إضافة إلى قدرته على عرض التشابكات وإظهار التناقضات بين العام والخاص، بين العائلة والمجتمع سياسيا ًّوأهليًّا والعناصر المشكّلة للتاريخ الوطني ورواياته المختيّلة من جهة وبين محاولات التفسير والتوضيح التي سلكتها الكاتبة في تعاطيها مع الحوادث والمجريات التي تصيب المجتمع في حقبة زمنية معنية، لا بل يجري تجاوز ذلك مضيًا في إعادة التفكير في ما جرى وما يجري. هنا نجد بأن التخييل كان له وظيفة واضحة في رواية “حرّاس الهواء” وهي السعي نحو وضع عوالم الآخرين بطريقة يمكن تصوّرها، بينما كان الهم الأساس لـ “نيغاتيف” ينصب حول تجارب الظلم المعيشة للنساء والمعتقلات السياسيات وعرضها بصيغة أدبية تلائم تلك المصائر وتعطيها الحق في الكشف والإظهار. في العملين كليهما تمكّنت الكاتبة بكل براعة أن تجسّد هذه المعاناة وهذه المستويات المختلفة من التجارب المؤلمة بطريقة مساواتية ليس فيها تراتبية في الألم، يكون فيها الحق للضحايا جميعهم في التعبير عن تجاربهم بشيء من العدل. بالطريقة الأدبية متعددة المحاور وفّقت الكاتبة بعرض جملة من التشابكات تخصّ مصائر مختلفة من البشر والجماعات، ممّن انتهكت إنسانيتهم وجرى الاعتداء عليها بطريقة أو بأخرى.
لم تعطِ رواية حراس الهواء الألم والمعاناة بعدًا قيمًا ذا أبعاد اجتماعية وسياسية فحسب، بل حوّلت عبر الفن السردي تجارب الناس المعيشة إلى قصص تعيد التفاصيل الإنسانية إلى الصدارة في التعاطي، بعد أن أسهمت السّياسة وعوالم الأقوياء في إزاحتها الى الهامش. وهكذا قامت رواية “حراس الهواء” بصيغتها الشعرية باستحقاق تسليط الضوء على عوالم العنف والاضطهاد الإنساني وكبت الحريات وآثارها في المجتمع السوري بالصيغة الأحدث؛ الملامسة للزّمن الراهن. فحقيقة التعذيب والاعتقال السياسي تحت حكم حافظ الأسد كان قد وصل إلى مدى واسع من النطاق، بحيث يمكننا التخمين بشيء من الثقة، بأن ذلك على صلة وشيجة باندلاع الثورة سنة 2011 وبالحرب العنيفة الراهنة التي لا رحمة فيها، فضلًا على المستويات غير المسبوقة من تواتر حوادث التعذيب والاعتقال التي تشهدها سورية الآن. إن الاعتقال السياسي والتعذيب لم يعد لهما وظيفة اضطهاد المعارضة فحسب، بل أصبحا جزءًا من وسائل الحرب كما تخطرنا به تقارير منظمة العفو الدولية والمركز السوري لحقوق الإنسلان على حد سواء. جميعنا مدعو إلى إدراك تلك الانتهاكات الجسيمة التي ارتُكِبَت بحق الناس بغير حق من الدولة التي تعدّ حامية للقوانين (ومن أطراف أخرى في هذه الحرب، لكن ليس من طرف المتظاهرين في الأسابيع والأشهر الأولى حتمًا). نحن أمام حقيقة تنتهك فيها الدولة نفسها قوانينها، كما كتبت طفلة ذات ثماني سنوات من العمر من يوم 09 كانون الثاني/ يناير من سنة 2006، وهي ابنة معتقلين سياسيين سابقين:
باسم أبي وأمي
لماذا كل الناس مظلومون في السجن
هذا ليس من القانون
أرجو من الجميع الانتباه جيّدًا (نيغاتيف، ص 256)
وهكذا بالمجمل كانت نهاية العمل “نيغاتيف”، إذ لم تنجز الكاتبة قفلة أدبية لنهاية الكتاب كما هي الحال في بعض الأعمال، بل انتهى على وقع هذه القصيدة وقصيدة أخرى لإحدى المعتقلات عند لحظة عودتها إلى مدينتها. هنا انتهت الرواية، لكن قصّة الظلم في سورية ودولة البعث اللاشرعية لمّا تنتهي بعد.
في النهاية وددت العودة إلى المعتقلة مجد التي جاء ذكرها في “نيغاتيف”. فسلوكها المرضي الذي له سمات جبرية تنزع إلى “بلع اللسان” قد يطرح تساؤلًا بشكل يثير بعضًا من سوء الفهم عن الكيفية التي يمكن من خلالها أن تَنسى هي وبقية ضحايا العنف السياسي النابع من الدولة وغيرها ما وقع عليهم من إجحاف وظلم؟ إن الدرس الذي تحاول الدولة تقديمه عبر ممارساتها الوحشية عبر أجهزة القمع لديها، التي كانت ساحته أجساد المعتقلين، يجب مقاومته والتعبير عنه بطريقتين، تكون الأولى بإعادة إحياء الماضي الذي يُراد له أن يلفّة الصّمت مع نزع القيمة عنه، بينما تنحو الثانية صوب تمكين المعتقلين السابقين بإعادة السيطرة على أجسادهم وذاكرتهم على حد سواء. بكلمات أخرى: ما هي تمثلات الماضي التي تلائم من أجل طرح الحقيقة على الشأن العام، بكل ما يحمله ذلك من خضّ شديد لوقائع الظلم التي تمتد آثارها حتى يومنا الحاضر، مع محاولات الشفاء من الجروح والرضوض التي لحقت من الخبرات المؤلمة هذه؟ ما هي تمثّلات الماضي ووقائعه الملائمة، ليس من أجل نبش قبور الأموات وقصص البشر المتسرّبة إلينا من عتم السجون فحسب، بل من أجل القدرة على إعادة دفن هذه الوقائع بكرامة، وجعل الحياة وتعّلم أصول العيش مجددًا ممكنين أيضًا.
عنوان المادة الأصلي باللغة الألمانية | Ich bitte alle darum, gut aufzupassen Frauen in der zeitgenössischen syrischen Gefängnisliteratur |
اسم الكاتب | Dr. Stephan Milich |
مصدر المادة الأصلي | Institute of Oriental Studies |
رابط المادة | http://orientalistik.univie.ac.at/forschung/publikationen/wiener-zeitschrift-fuer-die-kunde-des-morgenlandes/ |
تاريخ النشر | 2017 |
المترجم | جمال خليل صبح |
الدكتور شتيفان ميليش
أكاديمي وباحث ألماني من قسم الدراسات الشرقية في جامعة كولن، يهتم بالأدب ما بعد الكولونيالية ودراسات الاستعمار، إضافة إلى انعكاسات الرضوض النفسية في الأعمال الأدبية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومطارحات الخطاب الثقافي في تجليات القومية والوطنية عند المثقفين العرب ونظرية ما بعد الكولونيالية في السياق الثقافي والمجتمعي في البلاد العربية. له أبحاث عدّة منشورة في كتب دوريات ألمانية ودولية محكمة، إضافة إلى ترجمته عددًا من الأعمال العربية إلى اللغة الألمانية لروزا ياسين حسن، وأدونيس، ومحمود درويش، وسنان أنطون وابراهيم نصر الله.
المترجم؛ الدكتور جمال خليل صبح
باحث وأخصائي في علم النفس/ خريج جامعة دمشق وجامعة آخن التقنية/ ألمانيا، فلسطيني سوري من مواليد دمشق، له عدد من الأبحاث والمقالات المنشورة، أصدر كتابين (كتاب الانتباه: في سايكولوجيا الانتباه الإنساني العام، و”أوراق الزعتر: جوانب فلسطينية في الثورة السورية/ مجموعة كتاب) وكتاب مترجم (هاربون من الموت لـ وولفغانغ باور). يعمل حاليَّا في مركز الطفولة الاجتماعي/ مستشفى بيت لحم التخصصي في شتولبرغ/ ألمانيا.
([1]) حسن، روزا ياسين: نيغاتيف، من ذاكرة المعتقلات السياسيات (رواية توثيقية). مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، القاهرة 2008، حسن، روزا ياسين: حرّاس الهواء. رواية إصدار دار الرّيس، بيروت 2009.
([2]) انظر الى مقال الكاتب المنشور في كتاب قصّة الزنزانة
Milich & Zein, Leben und Überleben; Cooke, The Cell Story; Haugebolle, Imprisonment, Truth Telling and historical Memory in Syria; Elimelekh, Arabic prison literature.
([3]) – إن قضية تمثيلات العنف في التاريخ ما بعد الكولونيالي لم يجر تناولها من الكتّاب والكاتبات العرب بالحجم نفسه الذي جرى من خلاله تمثّل قضية المحرقة أو الهولوكوست في الأدب عمومًا كما أظن. ربما بعض الاستثناءات في هذا السياق كالعمل الروائي اللبناني (مثلا يحضرني هنا الياس خوري وجان مقدسي “تفسّخ بيروت” الصادر سنة 1990)، كذلك بعض الأعمال لكتّاب فلسطينيين. بالنسبة إلى بعض الأعمال الأفريقية الراهنة يذهب الباحث إيغيل ستون بما يشبه ذلك حين يقول “لا شك بأن الحوادث بد ذاتها تعتبر مقرفة إلى حد بعيد، لكنها في الحقيقة ليست شاملة بالطريقة التي يتم الحديث عنها بما يتعلق بشهادات المحرقة النازية”. انظر مقال روبرت ستون النقدي: لن من تزيد معاناتي في حال عرفت ماذا رأيت، مجلة دراسات في الأدب (Studies in the Novel 40, Spring and Summer 2008, S. 82).
([4]) في ملحق الكتاب هناك بعض الصور لمعتقلات سياسيات شيوعيات، ترجع الصور الى المدّة بين 1987 و1990، حيث يظهر بعضهنّ ومعهنّ أطفال!. تظهر النسوة في الصور قويات مع روح معنوية عالية وحس تضامني كبير في ما بينهم. أُخذت هذه الصور إحدى المعتقلات الإسلاميات وقد جرى تهريبها إلى خارج السجن، كما تخطرنا الكاتبة روزا ياسني حسن، نيغاتيف، ص 263-267.
([5]) للاطلاع على بعض الأعمال النسائية التي تناولت أدب السجون انظر رواية اسليرة الذاتية “الشرنقة” لحسيبة عبد الرحمن التي صدرت سنة 1999. للاطلاع على بعض الأعمال العربية بأقلام نسائية انظر مقال عبّود المعنون “تمثيلات الأمة في شهادات اعتقال السجينات العربيات”.
([6]) هنا يجب الأخذ بالحسبان أن الثورة التي اندلعت سنة 2011 وما تلاها من حرب قد أظهرت كما هائلا من الحوادث والمجريات التي تحمل عنفا هائلا وصدمات نفسية كبيرة، بحيث يتعذر قياس هولها. لكن محاولات الكبت والنسيان تعني أيضا إزاحة الوجه والخضوع بصمت للواقع. بخلاف ذلك يمكن القول بأن محاولات التذكّر والتويثق وإعادة نبش الوقائع هي الأساس التي تبنى عليه محاولات من أجل الوصول إلى مجتمع عادل، وذلك لأن الحقيقة التي ينطق بها الضحايا ويجري التصريح بها عنهم هي الطريق القويم لذلك. هذه هي لب الأفكار الأساسية التي سادت في المجتمعات الغربية من أجل التعامل مع الماضي الذاتي وبخاصة حول كيفية التعاطي مع المحرقة النازية. بين هذين القطبين من التعامل، الكبت والنسيان على طرف والتذكر والاستحضار على الطرف الآخر، اللذين يرتبطان ببعضهما بأبعاد أخلاقية وحقوقية وسايكولوجية، تتأرجح مسألة كيفية التعامل الأمثل مع الماضي المرتبط بالظلم وبالعنف السياسي.
([7]) انظر رواية “نيغاتيف” ص 17.
([8]) البحث الإجتماعي الإمبيريقي/ التطبيقي يدل على طريقة في البحث تتميز بدرجة عالية من الانتظام وتزاوج بين النظرية والواقع بهدف تقديم وصف وتفسيرات وتنبؤات للعالم الإجتماعي المحيط بنا. النتيجة المراد تثبيتها من قبل التجريبيين هي أن المعارف العلمية أو الأخلاقية التي يحملها الإنسان إنما هي من التجربة، وذلك لأن نشاط العقل بأتمه ينطلق من العالم الخارجي، فضلًا عن حياة الناس ومشاكلها، فالأمر الذي آل إليه المذهب التجريبي في علم الاجتماع هو أن التجربة الاجتماعية أولًا، ثم العقل ثانيًا، وأن العلم في كل صوره يرتد إلى التجربة (المترجم).
([9]) في نهاية الكتاب هناك لائحة بأسماء 50 معتقلة مع معلومات شخصية عنهنّ مع تاريخ الاعتقال. هذه المعلومات وردت أيضا في هوامش الكتاب أسفل الصفحات.
([10]) انظر ياسين حسن، نيغاتيف، ص 69.
([11]) انظر ياسين حسن، نيغاتيف، ص 69.
([12]) في نوع الزنزانة المسمّى “مزدوجة” أوردت الكاتبة في تذييل الصفحة رقم 44 مايأتي: “المزدوجات عبارة عن أربع زنازين صغيرة لها سقيفة واحدة. تتقابل كل زنزانتين منهما، وبينهما الكوريدور والحمام ومحرّك السّجان والباب الخارجي الموصد يطلّ على كوردور السّجن”.
([13]) انظر حسن، نيغاتيف، ص 48-49.
([14]) عبر عدد كبير من التذييلات والهوامش تورد الكاتبة عددًا من المعلومات عن النساء اللوتي ورد ذكرهن في النص مع بعض التوضيحات المتصلة وبذلك يكتسب النص صفة “الإشارات الواقعية” التي تقرّبه من الخصال العلمية والتوثيق، التي دُعِّمت باللغة السردية الشائقة من الكاتبة. لكن هذه الحواشي نفسها والمعلومات التي وردت أيضا في رواية “حرّاس الهواء” لم تؤدِّ هذه الوظيفة، بل ساهمت بحدوث تأثير عكسي ينزع من السياق ويبعد القارئ عن روح النص المعرفي ويذكره بأن هذا العمل ما هو إلا انعكاس غير مباشر للواقع الاجتماعي، لكن من دون أن يعني ذلك بأن الخيال تكلّف بالسرد وبأن الحوادث ليس لها علاقة بالحقائق الاجتماعية.
([15]) كانت السجينات ينادين بالأرقام الخاصة بالزنزانات لا بأسمائهن كما وردت في النص.
([16]) على سبيل المثال قصائد الشاعر السوري نزار قباني والعواطف التي كانت تثيرها لدى المعتقلين (انظر نيغاتيف، ص 182). في مقطع آخر جرى تهريب راديو إلى داخل السجن وبذلك سُمعت لأول مرة منذ سنوات أغنية للمطربة اللبنانية فيروز. المثالان كلاهما عدا شيئًا إيجابيًا يساعد في تحرير المشاعر الحبيسة ويخفف من وطأة الضيق والمكان الكريه.
([17]) الكاتبة نفسها تسمي كتابها “رواية توثيقية” ويمكن ترجمتها حرفيًّا إلى رواية أو سرد قصصي.
([18]) هنا يجب لفت النظر بأنني بوصفي قارئًا “ذكرًا” قد أعتمد نموذجا من التفسير قد يختلف عما هي عليه الحال لو كانت القارئة “أنثى” في هذا المقال يمكن فقط الإجابة على السؤال حول مدى التأثير المتصاعد الذي تحدثه قراءة النصين الذين حاولت تناولهما ولكن بصورة جزئية وليس بصورة منهجية متكاملة. أظن بأن أدب السجون السوري بحاجة إلى نقد سوسيولوجي وأدبي شامل، أكثر من هذه المعالجة التي أنا بصددها.
([19]) يقصد الكاتب هنا الكتاب المرجعي للباحث ميشيل روتبرغ الصادر سنة 2009 الذي تناول فيه سرديات المحرقة/ الهولوكوست مستخدما تقنيات اجتماعية ونفسية حول الذاكرة وطرائق الاستحضار الفردي والجمعي في مرحلة مابعد الاستعمار/ الاستيطان (المترجم)
Rothberg, M. (2009): Multidirectional Memory: Remembering the Holocaust in the Age of Decolonization, Stanford University Press, USA.
([20]) هنا أحيل فهمي لهذه المفهومات في التحليل النفسي حول “الانتقال” و”الانتقال المضادّ/ المعاكس” إلى ما جاء في نص جورج دورو في كتابه الموسوم
From Anxiety to Method in the Behavioral Sciences, Mouton 2967.
يعد مفهوم الانتقال والانتقال المعاكس من مفهومات التحليل النفسي في علاقة المريض مع المعالج في أثناء التواصل العلاجي. ويقصد بالانتقال تلك “المشاعر والتصورات والأفكار والتوقعات التي تظهر لدى المريض تجاه المعالج في أثناء العملية العلاجية التواصلية بشكل غير واع ويكون أغلبها ذا محتوى سلبي ومن ارتدادات الخبرة المبكرة في الطفولة. وقد أتى على ذكرها فرويد في كتاباته العلمية المبكّرة عن الهسيتيريا. بينما يصف مفهوم “الانتقال المعاكس” تلك المشاعر والتصورات والأفكار التي يثيرها المريض عند المعالج إثر هذه العملية الدينامية المعقدة، وبشكل غير واع للمعالج أيضا. هنا تحدث فرويد عن الانتقال المعاكس لدى المعالج لاحقا بعد سنوات من ذكر المفهوم الأول في رسالة بعث بها إلى يونع (المترجم)
([21]) انظر ما جاء في الكتاب المرجعي لفيشر وريديسر حول أعراض الصدمة النفسية مثل الاقتحامات الذهنية حول الحدث الصادم، والسلوك التجنبي حول ما يتعلق بذلك، والأعراض المتصلة بالهياج العصبي وزيادة الشعور بالخدر وعدم التركيز، إضافة إلى حدوث شرخ كبير من الناحية العاطفية المعرفية بالنسبة إلى التصورات السابقة عن الذات والعالم
Fischer und Riedesser, Lehrbuch der Psychotraumatologie, S.45
([22]) انظر النص الذي يتناول مسألة انحلال الحيز الشخصي في تجربة الاعتقال السياسي كما وردت في تجارب ياسين الحاج صالح أو مصطفى خليفة للكاتب (Milich & Zein, 2017).
عذراً التعليقات مغلقة