كشف الهجوم الأخير لقوات الأسد على مواقع مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” في دير الزور، والرد المباشر من قبل مقاتلات التحالف الدولي بقيادة واشنطن، عن مدى جدية الأخيرة في إعادة تثبيت أقدامها في سوريا، وفرض نفسها كقوة عظمى ولاعب رئيسي في المنطقة.
وبحسب ما أعلن البنتاغون؛ فإن القصف الأميركي تسبب بمقتل نحو 100 من عناصر قوات الأسد ومليشياته (تضم مليشيات إيرانية ومرتزقة روس) من أصل 500 جندي وفق تقديرات وزارة الدفاع الأميركية.
التقديرات الأولية تشير إلى أن الهجوم كان بمثابة “جس نبض” الأميركان، وهو ما قوبل برد حاسم ومفرط مفاده أن واشنطن جادة في حماية قواعدها؛ لا سيما أن الهجوم كان يرمي للوصول إلى حقل “كونيكو” الاستراتيجي للغاز، حيث بدأت الولايات المتحدة إقامة قاعدة عسكرية.
وإذا ما كان الرد الأميركي رسالة واضحة إلى الروس، فقد سبقته رسائل أخرى خفية، ربما لم تنجح موسكو بقراءتها جيداً، كان أبرزها هجمات “حميميم” المجهولة مطلع العام الجاري، وآخرها إسقاط مقاتلة “سوخوي 25” بإدلب في الثالث من شباط، والتي تسعى الأخيرة جاهدة للحصول على حطام الطائرة، ومعرفة مصدر الصاروخ الذي أسقطها.
وبالتوازي مع الصدام الأميركي الروسي، تظهر جلياً الخلافات والتسابق على النفوذ بين اللاعبين الإقليميين، فاجتياح الأسد ومليشياته إدلب وتجاوزهم خرائط أستانة المسربة، مروراً بمعركة تركيا في عفرين ودخولها فيما بعد إلى عمق منطقة خفض التصعيد في إدلب، والرد الإيراني بقصف قواتها، يشير إلى أن كل طرف يسعى لاقتطاع ما أمكن قبل الوصول إلى توافقات جديدة.
بينما تأتي عودة واشنطن إلى المشهد السوري مع حراك دبلوماسي واضح، بدءاً بطرح “اللاورقة” رفقة مجموعتها المكونة من (فرنسا، بريطانيا، السعودية، والأردن) ومروراً بالتصريحات المتصاعدة حول استخدام الأسد للأسلحة الكيماوية ومسؤولية روسيا حيالها، بل واعتبار مسؤولين أميركيين أن تلك الأسلحة تشكل خطراً على الأمن القومي الأميركي.
لا شك بأن استراتيجية روسيا في سوريا أوضح من نظيرتها الأميركية، إلا أنه بات بإمكاننا تحديد ملامح استراتيجية الأخيرة اليوم، وقد حدد بعضاً منها وزير الخارجية الأميركي في خطابه بجامعة ستانفورد، فهي تعتمد أولاً على منع ظهور تنظيم “داعش” من جديد، ثانياً: عدم الانسحاب وترك مهمة ملئ الفراغ لإيران كما حصل في العراق سابقاً، ثالثاً: ضمان التخلص من مخزون الأسلحة الكيماوية، أما رهان واشنطن الحقيقي فهو عامل الوقت، حيث تبدو موسكو مستعجلة في قطف ثمار تدخلها العسكري، ووضع حد لمشاركتها المكلفة، وهو ما تدركه واشنطن، وتراهن على إخضاع الروس عبر استنزافهم وعدم السماح بتمرير أي حل لا يناسب مصالحها، لا سيما أنها تسيطر على مناطق استراتيجية لا يمكن للأسد إعادة بناء “دولته” دون استعادتها.
لقد استغل بوتين انشغال ترامب ونظرائه في فرنسا وبريطانيا بترتيب أوراقهم الداخلية بعد الانتخابات، حاشداً كل أدواته العسكرية والدبلوماسية في سبيل تكريس حل شكلي -على مقاسه-، وهو ما بدى بمثابة تفويض دولي للروس في الإجهاز على السوريين والنيل من أحلامهم.
لكن التطورات الأخيرة، بما فيها فشل مؤتمر سوتشي، الذي قد يتبعه عرقلة روسية جديدة لمسار جنيف، وابتزاز الأميركان المتصاعد بورقة الكيماوي، يدفع بالمزيد من التنبؤات حول جدية واشنطن ومعسكرها في إيجاد حل ذي ديمومة، يفضي حتماً لرحيل نظام بشار الأسد، المسؤول الأول عن الدماء والفوضى في المنطقة.
على أي حال، تبدو إعادة تموضع اللاعبين الرئيسيين واضحة في هذه المرحلة، وإذا كان يتجلى كسباق محموم على اقتطاع النفوذ، ولا يتفق حتماً مع مصلحة السوريين، فإنه على الأقل يؤرق طهران، الخاسر الأكبر هنا، ومن ورائها موسكو، الغارقتان في دماء الأبرياء.
عذراً التعليقات مغلقة