فراس المحيثاوي.. جندي الثورة المجهول

فريق التحرير7 فبراير 2018Last Update :
حوار: غياث الجبل

يعتبر فراس ضامن المحيثاوي من طليعة الثائرين ضد نظام الأسد قبيل الثورة السورية، وهو من مواليد محافظة السويداء عام 1978 وبالتحديد قرية “لبين” الواقعة بريف الغربي للمدينة الغربي، يقيم في السويداء حتى اليوم، ويحمل الشهادة الثانوية الفرع الأدبي، عمل كموظف في “كلية الآداب الثانية” في السويداء، وقد تم كف يده عن العمل لمدة عام كامل بعد اعتقاله لقيامه وصديقه معتز نادر -ابن محافظة السويداء أيضاً- بتوزيع مناشير تحرض على الثورة وترفض تسلط البعث، ليقوموا بعدها بالبخ على جدران العاصمة دمشق وذلك بعيد سقوط نظام “زين العابدين بن علي” في تونس، حيث ألقت أجهزة الأسد الأمنية القبض عليهما وسط العاصمة دمشق في 31 كانون الثاني/ يناير 2011، ليتم اعتقالهما لنحو أربعة أشهر.

بعد مضي عام على كف يد فراس عاد إلى عمله، ومن ثم انتقل إلى “كلية الفنون الجميلة الثانية” في السويداء أيضاً، وبقي يمارس عمله فيها حتى منتصف شهر أيلول من عام 2016، حيث تم فصله لرفضه الالتحاق بجيش الأسد لتأدية خدمة الاحتياط.

حرية برس أجرى حواراً مع فراس المحيثاوي للحديث عن بدايات نشاطه قبيل الثورة السورية وظروف الاعتقال وما بعدها.

*هل كان لديك أي نشاط أو عمل سياسي قبل عام 2010؟

**لم يكن لدي أي نشاط أو عمل سياسي، وإنما كنت ضمن مجموعة من الأصدقاء نتداول الهم الثقافي ولطالما تطرقنا إلى موضوعات المجتمع المدني والدولة المدنية، وقضايا حرية الفرد، وعندما كان الحديث ينحو منحى الحراك الفعلي للمطالبة بتعميم الحالة المدنية، كان أصدقائي يتخذون جانب الحيطة والحذر، بينما كنت أنتظر من لديه من الجرأة ليساندني في تنفيذ ما كنا نخطط له.

*كيف بدأتم توزيع المنشورات، ماذا كان هدفكم، وماذا تضمنت تلك المنشورات؟

**كنت وصديقي “معتز نادر” على معرفة قديمة ، بدأت منذ كنا في المرحلة الإعدادية وكنا من سكان “حي التضامن” بالعاصمة دمشق، وقد انتقلت مع عائلتي للسكن في منطقة “جرمانا” فانقطع خيط التواصل بيننا، ثم التقينا بعد ذلك بسنوات أثناء زيارتي لزوجتي السابقة (س.ص) في فترة خطوبتنا، حيث دعاني إلى منزله وأطلعني على مقالات كتبها تتضمن نقداً سياسياً ذا سقف مرتفع وسألني عن رأيي بمضمونها فأبديت حماستي لمحتواها، عندها أخبرني بمحاولته لنشرها في صحف تحمل طابعاً يسارياً ورفض تلك الصحف تحمّل مسؤولية نشرها، فاقترحت عليه أن أصورها في مكان عملي “كلية الآداب الثانية في السويداء” على آلة تصوير مستندات كانت في عهدتي، وتوزيعها بسريّة على شكل منشورات في الأوساط الثقافية في العاصمة”دمشق”.

كنا نهدف إلى أمرين، الأول: توجيه رسالة لأجهزة الأمن ورأس النظام بأن هناك من هو ليس راضٍ عن القبضة الأمنية والسلطة الاستبداية والسلوك القمعي في وطني سوريا، أما الثاني: كنا نخاطب الشريحة المثقفة محاولين خلق مناخ من السعي نحو التغيير الحقيقي لعلنا نجد أصواتاً جريئة تشاركنا صنع هذا التغيير.

أما المنشورات فقد كانت أولها معنوناً ب”استفحال سياسة الالغاء ورمز الحاكم الإله” والثاني “مأساة سوريا” أما الثالث فكان تحت عنوان “الجيل الطفل”، وقد عني المقالين الأولين بإلقاء الضوء على دور رأس النظام وأجهزة الأمن في فرض المنظومة البعثية على كل مفاصل الحياة العامة للمواطنين، وتكريس فكرة تأبيد الظل التي تقول ببقاء رئيس الجمهورية على سدة الحكم إلى الأبد مع تكريس فكرة أنه الوحيد الذي بيده مفتاح الخلاص للشعب على مستوى السياسة الخارجية والداخلية، أما المقال الثالث “الجيل الطفل” فقد دار حول تربية أطفال سوريا بطريقة العسكرة والولاء المطلق للحاكم في المؤسسات المدعوة بطلائع البعث، وشبيبة الثورة.

*من كان يعلم بنيتكم في توزيع تلك المنشورات؟ وكيف قمتم بتوزيعها؟

**لم نخبر أحداً بنيتنا، غير أن لدي شكوك أن زوجتي السابقة (س.ص) والتي كانت منتمية دون علم مني إلى ما يعرف بالجيش الإلكتروني السوري، كانت تراقبني وتراقب صديقي “معتز نادر” وربما استطاعت أن تتوصل إلى ما كنا نخطط له.

في أواخر عام 2010 وقبل انطلاق الثورة التونسية، قمنا أنا وصديقي “معتز” وبعد طبعنا 300 ورقة للعناوين الثلاثة أي 100 ورقة لكل عنوان بتوزيعها ليلاً على مدى يومين، ففي مساء اليوم الأول وتحديداً بعد الساعة الثامنة قمنا بنشر قسم من المنشورات في كلية الآداب بدمشق بإلقائها -المنشورات- من فوق السور إلى داخل حرم كلية الآداب، ووضعنا بضع منشورات عند كوة الصراف الآلي الملاصق لباب الكلية، ثم تابعنا سيرنا باتجاه المدينة الجامعية، ودخلناها دون أن يسألنا الحرس عن مبتغانا، كنت أضع بضعة أوراق على مقاعد الحديقة بينما كان معتز يراقب السابلة خشية أن يلفت سلوكنا الأنظار، وفي اليوم التالي توجهنا في الساعة الثامنة مساءاً إلى كلية الحقوق، حيث قمنا بتوزيع باقي المنشورات هناك بالطريقة آنفة الذكر.

*كيف تفاعل الطلاب الجامعيون مع المنشورات بعد توزيعها؟

**لم نكن نعتقد في البداية أن أحداً من الطلاب قرأ المنشورات، إذ أن “معتز” كان قد ذهب في تمام الساعة السابعة صباح اليوم الثاني من توزيعنا للمنشورات إلى كلية الآداب والمدينة الجامعية ليرى أثر نشاطنا فلم يجد أي منشور، مما رجح لدينا أن الأجهزة الأمنية وحرس الجامعة جمعوا المنشورات وصادروها ليلاً قبل أن يستيقظ الطلاب ويرونها، إلا أنه بعد اعتقالنا التقينا بأحد الناشطين الذين اعتقلتهم الأجهزة الأمنية بعد مشاركته في المظاهرة الأولى في سوريا منتصف آذار/ مارس من عام 2011 في العاصمة دمشق، حيث كان طالباً في كلية الحقوق بجامعة دمشق، وأخبرنا بأنه قرأ المنشورات هو وثلة من أصدقائه، وقد فرحوا بما حملته، وتمنوا أن يجدوا طريقة للتعرف والتواصل معنا.

*ماذا عن خطوتكم التالية؟ هل كنتم تخططون لإشعال ثورة ضد نظام الأسد؟

**في البداية لم يكن لدينا تصور واضح عن خطوة تالية، إذ أننا كنا ننتظر ما سيرهص عنه توزيعنا للمنشورات وسنقرر خطوتنا التالية بناءاً على ذلك، غير أن “معتز” سألني إن كان لدي أفكار حول الخطوة التالية بعد أن مضى وقت طويل على توزيع المنشورات، ولم نلمس أي ارهاص يذكر، فاقترحت عليه أن نعبّر عن مطالبنا بطريقة البخ على الجدران، أما بالنسبة لإشعال ثورة ضد نظام الأسد، كنا نأمل أن نلتقي حجراً في المياه الراكدة في الشارع السوري علّنا نستطيع أن نعلي صوت احتجاج الشارع، في محاولة لخلق مناخ يهيئ الشارع لاستقبال الثورة.

كنا نخطط لملئ جدران العاصمة دمشق بعبارات تشعل فتيل ثورة، ومن ثم فقد انطلقنا في 31 كانون الثاني/ يناير من عام 2011 من بيتي في منطقة جرمانا إلى محل لبيع “الدهان” حيث اشترينا علبتي “بخاخ” إحداهما حمراء والثانية سوداء، وتوجهنا إلى منطقة “باب توما” في العاصمة دمشق ووصلنا إلى هناك حوالي الساعة التاسعة مساءاً، وحين لاحظنا اكتظاظ الشوارع بالمارة بقينا نتجول منتظرين الفرصة المناسبة وبعد حوالي منتصف الليل كنا وصلنا إلى جدار قلعة دمشق المقابل للحديقة البيئية، حيث قمت ببخ بعبارة: “يسقط الأسد”، وقبيل أن أنهي العبارة لاحظ معتز قدوم أحد المارة، فوضعنا العلبة في الكيس ومشينا بخطى سريعة مبتعدين عن المكان، ثم رحنا نجري بسرعة، وحين وصلنا إلى “جسر البحصة” الذي يلي مباشرة “جسر الثورة” صعدناه وحاولت أن أبخ عبارة “يسقط بشار الأسد”، غير أنني لم أتمكن من إتمامها بسبب وجود مقهى في الطابق الثاني من الجهة اليسرى للجسر، حيث يجلس أحد الأشخاص ولاحظنا أنه ينظر إلينا بفضول، فنزلنا مسرعين ودخلنا في فسحة مهجورة اكتشفنا لاحقاً أنها كانت مرآب قسم شرطة البحصة، حينها قام معتز ببخ عبارة: “يسقط بشار الأسد”، ثم تابعنا باتجاه سينما الشام، وبعدها انحرفنا يساراً تجاه الشارع المؤدي إلى فندق “الفور سيزن”، وفي منتصف الشارع تقريباً رأينا صورةً مضاءة تجمع بين شخصي “باسل وحافظ الأسد” وحضرت في ذهننا -أنا ومعتز- الفكرة نفسها، فهممت برفع معتز فوق كتفيّ ليقوم بتمزيق الصورة مستخدماً غطاء علبة مياه غازية وجدناها صدفة في المكان، غير أنه في هذه اللحظة خرج شرطي من حرس المبنى فغادرنا ولحسن الحظ دون أن يحدس نيتنا، ومن ثم أتممنا سيرنا تجاه “جسر فيكتوريا” حيث طلب مني معتز أن أقوم ببخ عبارة تقول: “ما حدث في تونس سيحدث في سوريا” وعندها التفت إليه متسائلاً: ما الذي حدث في تونس ؟!

فنظر إلي مندهشاً وقال: أحقاً لا تعرف؟!

أجبته: لا، لا أعرف، فأخبرني بمجريات الثورة التونسية وسقوط نظام “زين العابدين بن علي”، كما أخبرني بثورة الشارع المصري، وقال أن الرئيس “حسني مبارك” يوشك على السقوط … وبعدها قمت ببخ العبارة على إحدى قوائم “جسر فيكتوريا”، ثم مشينا بضعة أمتار وعلى القائم ذاته قام معتز ببخ عبارة تقول: “التظاهر قادم”، ومضينا باتجاه “سينما دمشق” غير أنه قبيل أن نقطع الشارع قامت دوريتان من “الأمن الجنائي” إحداهما راجلة والأخرى تركب سيارة، بالاطباق علينا كفكي كماشة.

*كيف وما هي ظروف اعتقالكم لدى أجهزة الأمن؟

**لقد تمكن “معتز” من الفرار، بينما تم اعتقالي وجمع يديّ بالقيد إلى خلف ظهري، ثم جرّوني إلى أمام عبارة “التظاهر قادم” وأخذوا ينهالون علي ضرباً مستهدفين كل جزء في جسدي، أحدهم أمسك بي من شعر رأسي وأدارني صوب العبارة، ثم وضع قبضته نصب وجهي قائلاً باللهجة العامية: “عيّن بالبوكس يا أخو ال****** عينّ!!” , ثم أشار إلى العبارة وقال: “عبتتعدى على أسيادك بيت الأسد يا أخو ال****** !!؟، والله لخليك تبوسو للبوكس!”، وأخذ ينهال على عيني اليسرى حتى تورم خدي بحيث غطى مساحة العين فلم أعد أستطع الرؤية بها.

اصطحبوني بعدها إلى قسم شرطة “المرجة”، لتبدأ حفلة التعذيب، وقالوا لي: “إذا كمشتنا رفيقك اليوم بتبات بالبيت، وإذا يبست راسك منجيب إمك وإختك ومنغتصبن قدامك، وطبعاً لم أتخيل أنهم سيطلقون سراحي، ولكنني خشيت التنكيل بأهلي، وظننت أنني ومعتز فقط من يجب أن يتحمل المسؤولية، فقررت أن أرشدهم إلى معتز، ورغم هذا المبرر بقيت لفترة طويلة أشعر بتأنيب الضمير، اتصل بي معتز على هاتفي الجوال فأخبرته أنني تمكنت من الفرار، فطلب مني القدوم إلى بيته، وقال لي: أبشر، لدي من النقود ما يكفي لنسافر إلى “لبنان “، مضيت بسيارة الدورية إلى منطقة “صحنايا” حيث تم إلقاء القبض على معتز، وحيث أنني كنت غير مصطحباً هويتي الشخصية، فقد مضينا بسيارة الدورية -أنا ومعتز- إلى بيتي في جرمانا وأخذ أحد عناصر الدورية يدق على الباب بصوت منخفض لكي لا يستيقظ سكان البناية، فتحت زوجتي السابقة الباب، وأبدت دهشتها حين رأتني غارقاً بالدماء ومقيد اليدين -شعرت أنها تفتعل الدهشة- تم تفتيش بيتي، حيث صادروا جميع أوراقي والحاسوب الشخصي لزوجتي، وقبل أن نمضي لمحت أحد عناصر الأمن يشير إلى زوجتي خلسة أن تقترب مني، فاقتربت وعانقتني وعندها اكتمل السيناريو بأن انتزعني العنصر ذاته من بين يديها ومضينا عائدين إلى السيارة، وعلمت لاحقاً أن أهلي الذين كانوا يسكنون في الشقة المجاورة لشقتنا، أحسوا لغطاً يجري في شقتي، غير أن أخي لمحني وقت اقتادتني الدورية إلى السيارة، إلا أن الدورية تجاهلته، فلم يستطع اللحاق بنا رغم أنه كان يجري صوبنا مسرعاً، ومضت السيارة تجاه الإدارة العامة للأمن الجنائي في منطقة “باب مصلّى”، وخلال هذا كله لم يتوقف عناصر الدورية عن ضربنا وتوجيه الشتائم لنا.

عند دخولنا مبنى الإدارة العامة وبينما الضرب والشتائم مستمرة، طلبوا منا أن نتجرد من ثيابنا، ونباعد ما بين ساقينا، ربما للتأكد من عدم امتلاكنا لوسائل الإنتحار، ثم أنزلونا إلى قبو يضم منفردات الفرع وفصلوا بيني وبين معتز، فوضعونا في منفردتين مختلفتين، في المنفردة التي اختاروها لي كان المكان يبلغ حوالي 2*2 م، وكان معي في نفس المنفردة شخصان موقوفان بتهم جنائية، وقد طلب العنصر الذي اقتادني إلى المنفردة منهما أن يتوصيا بي قائلاً: “هذا العرص من جماعة اسقاط النظام، ما بدي يا ينام ولا دقيقة، وبتعرفوا شغلكن، أبديا حماساً للتنكيل بي، وقد أعطاه أحد الموقوفين مبلغ ثلاثة آلاف ليرة سورية ليبتاع له العنصر علبة سجائر نوع “حمرا طويلة” قائلاً له : “زبطلي حمام بعد شي ساعة”.

كانت المنفردة مربعة الشكل يقطعها المرحاض من الجهة اليسرى، وكان الموقوفان ينامان في الجهة اليمنى، بينما حشرت أنا في المساحة المتبقية بين المرحاض والحائط في الجهة اليسرى، وقد استمر الموقوفان بإيذائي طوال اليوم الذي قضيته في المكان ، حيث كانا يوجهان إلي الرفسات حين يتمكن مني التعب فأغفو، ويطلقان الكلام البذيء والشتائم حتى أنهما هددا باغتصابي أكثر من مرة، كما كانت المنفردة بمنتهى القذارة، حيث كان الموقوفان يطفئان سجائرهما بعد أن ينتهيا من تدخينها في جورة المرحاض، ويضعان أعقاب السجائر في ثقب في سقف المنفردة، ولم يكن الماء متوفراً لننظف المرحاض أو أنفسنا بعد قضاء حاجتنا، ولست متأكداً إن كان يتم تنظيف هذه الأماكن بشكل دوري، حيث أن إقامتي في الإدارة العامة للأمن الجنائي لم تكن  طويلة.

*ماذا عن فترة التحقيق؟

**خلال وجودي هناك تم استدعائي للتحقيق مرة واحدة، حيث حضر أحد عناصر الأمن إلى المنفردة ووضع “الطماشات” على عينيّ واقتادني إلى غرفة التحقيق بعد صعودنا درجات كثيرة، وفي الغرفة سمعت صوت المحقق يوجه لي سؤاله الأول: منذ متى تعلم أن “معتز نادر” ينتمي إلى شبكة الموساد الإسرائيلي؟

أجبته مستنكراً: هذا غير ممكن، فمن المسنحيل أن يكون صديقي معتز عميلاً للموساد الإسرائيلي! حينها فوجئت بلكمة قوية على رأسي من الخلف وصوت العنصر يقول لي :”تأدب وانت عم تحكي مع سيادة العميد ولا!!”

فقال له المحقق : دعه، لا تتدخل وانتظر خارجاً.

ثم سألني المحقق: منذ متى تعلم أن “معتز نادر” عضو في رابطة العمل الشيوعي؟

أجبته: لا علم لي بانتماء معتز للرابطة.

ثم ضغط زراً مستدعياً العنصر آمراً إياه بإعادتي إلى المنفردة.

في صباح اليوم التالي أخرجوني من المنفردة ، ثم جمعوني أنا ومعتز في قيد واحد، وخرجنا من البهو -أنا ومعتز- ومعنا العديد من الموقوفين مقيدين بسلسلة حديدية واحدة، ليفصلوني ومعتز عنهم أمام باب الإدارة، ووضعونا بسيارة مضت بنا إلى فرع الأمن السياسي بالقرب من “ساحة الميسات” وسط العاصمة دمشق.

قضينا حوالي الشهرين في فرع الأمن السياسي، وقد قسمت فترة احتجازنا في “الميسات” إلى قسمين: 37 يوماً في الحبس الانفرادي، و 22 يوماً في “الجماعية”، استدعيت خلالها ثلاث مرات للتحقيق.

المرة الأولى كانت بعد حوالي النصف ساعة من وصولنا من الإدارة العامة للأمن الجنائي، وقد حقق معي ضابط برتبة رائد يدعى “وسام اسمندر” وطلب مني ذكر الحقيقة كاملة واعداً إياي بإخلاء سبيلي، أو على الأقل بوضعي رهن الإعتقال بظروف مخففة، وبعد أن ذكرت له ما حدث معي ومعتز، أمر بوضعي في الحبس الإنفرادي، ثم طلب استدعائي ثانية بعد حوالي أسبوعين، وقد بدأ بالتحقيق معي كما يلي:

– يبدو أن معتز أكثر عراقة منك في المعارضة، وأنا أميل إلى أنه غرر بك، أريد منك أن تخبرني ما الذي دفعك إلى معارضة النظام

أجبته: كل ما يحدث في البلد يجعلنا نطالب بالتغيير، فساد المؤسسات الإدارية، عنجهية ضباط الجيش، فساد منظومة البعث مع دخولها في مفاصل الحياة اليومية، إضافة إلى فقدان شعورنا بالمواطنة نتيجة انتقاص كرامتنا من قبل شريحة تنتمي إلى الطائفة العلوية وهيمنتها على مقدرات البلاد وعلى الشعب أيضاً.

المحقق: مع عدم قناعتي بأن ما ذكرته يكفي ليتحول شخص مسالم مثلك إلى معارض، سأقبل بما قلته على أن تذكر لي ما هي مطالبك؟

أجبته: أولاً إلغاء مفهوم الرئاسة الوراثية، ثانياً: أن لا يكون حزب البعث هو الحزب القائد للدولة والمجتمع “علماً أنني لم أكن حينها أعرف بأن المادة الثامنة من الدستور تنص على ذلك”، ثالثاً: إلغاء قانون الطوارئ.

المحقق: ماذا تعرف عن قانون الطوارئ؟

أجبته: أعرف أنه يمنع تجمع أكثر من شخصين دون اذن من أجهزة الأمن، وأنه يمكن لأي مسؤول أو رجل أمن أن يعتقل أي مواطن له ثأر شخصي معه دون إذن من النيابة العامة تحت حجة أن الدولة في حالة طوارئ.

المحقق: “عامل حالك غشيم، عارف دليلة وقف قدامي وما قلي هالكلام ! انقلع من خلقتي وبس تقرر تحكي الصدق بساعدك”، استدعى بعدها المحقق عنصر الأمن لإعادتي إلى منفردتي. وبالنسبة لبقية التحقيقات فكانت أسئلتها روتينية.

أما عن ظروف الإعتقال، لم نكن نتعرض للتعذيب الشديد، إذ أننا علمنا لاحقاً أن معتقلاً داخل “الجماعية” قام بكسر مصباح الإضاءة “لمبة” وتناول زجاجها منتحراً، وأن معتقلاً آخراً قد استشهد بجولات التعذيب أثناء التحقيق معه، وعندها أصدر رئيس قسم التحقيق الرائد “وسام اسمندر” قراراً منع بموجبه تعذيب المعتقلين أثناء التحقيق.

وكانت المنفردة مشابهة لمنفردة الادارة العامة للأمن الجنائي إلا أنها لم تكن مضاءة، أما “الجماعية” فقد كانت غرفة مستطيلة الشكل بمساحة 25 متراً مربعاً تقريباً، وبعد انطلاق الثورة السورية وحملة الإعتقالات التي طالت الناشطين آنذاك، وصل عددنا في الجماعية إلى 25 شخص، أي لكل معتقل منّا متر مربع.

*كيف استقبلت خبر انطلاق الثورة السورية؟

**حين دخل علينا في الجماعية أوائل معتقلي التظاهرات سمعت أحدهم الذي يدعى الدكتور “أمجد فرخ” من حي القابون يقول لصديقه “مصطفى الهبول” من الحي نفسه: “هي مخابراتك .. متوقع يعاملونا أحسن من هيك!؟”

حينها سألته عما يجري في الخارج، فأجابني مندهشاً: أحقاً لا تعلم ماذا يجري؟!، منذ متى وأنت هنا؟!

أخبرته بقصتي، فأخبرني بمجريات الثورة، حينها شعرت بغبطة عارمة وفرح شديد، وقلت له فرحاً : “أخيراً قامت !!! الله محييك ” وعانقته بشدّة، كنت في قرارة نفسي أشعر بمزيج من الفرح والفخر إذ أن ما قمت به أنا وصديقي “معتز” -الموجود في جماعية أخرى- لاقى صداه في الشارع السوري.

بعد مضي حوالي الشهرين، استدعينا أنا ومعتز إلى غرفة المحقق سويةً، لأتفاجأ بعد انتزاع “الطماشة” عن عيني برؤية زوجتي السابقة (س.ص) جالسةً بالقرب من المحقق، وقد وقفت لتعانقني ففوجئت بأنني لم أعرها انتباهاً، بل على العكس امتعضت من وجودها بالمكان وتساءلت في قرارة نفسي كيف استطاعت الوصول إلى غرفة المحقق؟! فدار في خلدي السيناريو الهش حين حاولت ادعاء لهفتها عليّ حين اقتادتني الدورية إلى المنزل لإحضار هويتي الشخصية أثناء اعتقالي.

عادت زوجتي إلى الجلوس وملامح الصدمة مرتسمة على وجهها، وأخبرني المحقق بأنه سيتم نقلي ومعتز تواً إلى سجن دمشق المركزي المعروف بسجن “عدرا”.

قضينا مدة شهرين من 31 آذار/ مارس 2011 إلى 31 أيار/ مايو من نفس العام في الجناح الأول الذي يعرف “بجناح المدرسة”، وقد ضم الجناح المساجين الذين يرغبون بإكمال تعليمهم، غير أن معظم المساجين كانوا يقدمون طلبات النقل إلى هذا الجناح بعد دفع رشوة معلومة لإدارة السجن، لينعموا بظروف أكثر رفاهية، إذ أن الجناح الأول هو الأقل ازدحاماً من الأجنحة الأخرى، وبعد انطلاق الثورة قررت إدارة السجن أن تضع معتقلي الرأي في هذا الجناح المنفصل عن باقي الأجنحة لعزلهم عن بقية المساجين، وسرعان ما اكتظ هذا الجناح بناشطي ومعتقلي الثورة، إضافة إلى من اعتقلتهم عناصر الأمن بسبب كنيتهم وخاصة آل المحاميد وآل الصياصنة وآل المسالمة أو بسبب انحدارهم من منطقة ثائرة كمنطقتي القابون ودوما، وقد التقينا بالناشط الصحفي المعروف “حبيب صالح” وكان هناك عدد من معتقلي المظاهرات، غير أن الاستاذ “صالح” الذي شاركنا المهجع ذاته، كان أول من استقبلنا وسألنا عن سبب اعتقالنا، كما أنه حاول تقديم كل مساعدة ممكنة، وفي منتصف الشهر الرابع تقريباً دخل مهجعنا الأستاذ “جورج صبرة” والأستاذ “فايز سارة”، حيث بادر الأستاذ”صالح” بتعريفنا بهما، كما تعرّفنا إلى الأستاذ “رياض سيف” بعد ذلك بأسبوع.

وخلال فترة وجودنا في سجن عدرا ذهبنا إلى المحاكمة مرتين، وفي كلتا المرتين وأثناء ذهابنا إلى القصر العدلي في العاصمة وتحت الركل واللطم الذي كنا نتعرض له من قبل العناصر كنت وصديقي معتز نتبادل الهمس متفقين على الاعتراف بكل ما قمنا به دون مواربة، ولم يتم نقلنا إلى الأفرع بعد وصولنا سجن عدرا بل تم اخلاء سبيلنا في 31 أيار/ مايو بناءاً على مرسوم العفو.

*هل لاحظت وجود حالة من التمييز الطائفي خلال فترة اعتقالك؟ وما هي الأحداث الأكثر انطباعاً في ذاكرتك طوال هذه الفترة؟

**على العكس تماماً فلقد تكرس شعار الشعب السوري واحد، فمثلاً حين دخل على مهجعنا الأستاذ “رياض سيف” بحالة صحية سيئة نتيجة تعرضه للتعذيب بأقبية المخابرات، راح يتشاور كل من الأساتذة “حبيب صالح” و “جورج صبرة” و”فايز سارة” حول إيجاد سرير للأستاذ “سيف”، إذ أن عدد المعتقلين في المهجع الأول بلغ في تلك الفترة 115 معتقلاً، بينما حوى المهجع على 30 سريراً.

بادرت حينها إلى جمع بطانياتي وفرشتها في فسحة بين سريرين وقلت لهم الأستاذ “رياض” سينام على سريري، وحينها لم أكن أفكر أنا أو أي معتقل في المهجع بانتمائه الطائفي، وهذا كان حال الجميع تجاه أي معتقل.

الحدث الأكثر انطباعاً في ذهني كان بجماعية فرع الأمن السياسي، فقد دخل علينا رجل خمسيني من إخواننا الأكراد يقيم في منطقة “مزة 86” في دمشق، وأخبرنا بقصة اعتقاله:

كان يعمل سائق تكسي عمومي، وقد أوقفه حاجز أمني وأمره بالنزول مصادراً سيارته، وتم اعتقاله على الرغم من عدم مشاركته في التظاهرات حينها، وأحضروه إلى الفرع، كان أكبر هواجسه أن يكونوا قد اعتقلوا ابنه أيضاً، إذ أنه كان أرملاً وأباً لاثنين، إحداهما فتاة قاصر في الرابعة عشرة من عمرها، كان يخشى على مصير فتاته، وكنا في الزنزانة نصعد على أكتاف بعضنا تجاه نافذة مزودة بشبك محاولين استنشاق بعض الهواء، وحين صعد الرجل الخمسيني في إحدى المرات، شاهد عنصراً يقتاد ابنه إلى غرفة التحقيق، فناداه فرحاً برؤيته باسمه الكردي، ليجيبه باللغة الكردية مبادلاً اياه الفرح، فقام العنصر الذي يقود الابن بزجرهما، وحين نزل الأب، أخبرنا عن بهجته برؤية ابنه، ثم فجأة راح يجهش بالبكاء متذكراً طفلته والمصير الذي ينتظرها وهي وحيدة.

أما الحدث الثاني الذي لم أستطع يوماً نسيانه حدث في سجن عدرا حين كان الازدحام على أشده في المهجع الأول، وكنا نتسلق على عوارض الأسرّة لنصل إلى المطبخ، كنت أذهب يومياً بعد الساعة الثالثة ليلاً لقراءة كتب من المكتبة هناك يقوم باستعارتها لي سجين قديم، وفي إحدى المرات قدم شخص من آل “المحاميد” من محافظة درعا وقال لي بلهجة اخوتنا الحورانية: “سامحني أستاذ إذا قاطعت قراءتك، نحنا تعودنا ننام بمنفردات الجوية وما نفيق غير على حفلات التعذيب، لهيك صرنا نشتهي السهر بعد ما جابونا لهون، وصرنا نشتهي نحكي قصتنا للناس، أنا خالي اسمو أحمد أبو العيون المحاميد، شارك بالمظاهرات الأولى يلي صارت بدرعا، واتصاوب بكتفو برصاصة قناص، أسعفوا الشباب عالكنيسة، كان الخوري دائماً يوقف معنا بهيك حالات، قام فات الجيش والشبيحة على الكنيسة، وقوسوا عليهم وأخذوا خالي، حطوا بسيارة وبعدين ما عرفنا عنو شي لحد ما جابوا ولاد الحرام جثمانو بالبراد، ولما فتح أخوه البراد لاقاه كاتب بالدم :أنا أحمد أبو العيون المحاميد ما اتصدقوهم دفنوني عايش بالبراد”.

“استنتجنا أنو فاق بالبراد، وغط اصبعو محل الجرح وكتب هالعبارة قبل ما يصفى دمو”.

*بعد خروجكم من المعتقل، هل تابعتم نشاطكم وانخرطتم في صفوف الثورة؟

**بعد خروجنا من سجن عدرا لم نقم بأي نشاط سوية، فقد تم فصل معتز من عمله في إحدى المؤسسات الحكومية بعقد سنوي، ثم سافر إلى مصر، ومنذ ذلك الوقت لم أعد أعلم عنه شيئاً، إذ أنني لم أكن أملك حينها هاتفاً ذكياً أو حاسوباً لنتواصل على الشبكة.

أما أنا فقد دعاني صديقي “مصطفى الهبول” إلى منزله في منطقة القابون، ثم خرجنا لنشارك بمظاهرة هناك، وقد كان المتظاهرون يهتفون لجميع المحافظات السورية، وحين هتفوا :”يا سويدا حنا معاكي عالموت” سألته مازحاً: “لحقوا يعرفوا أنو أني بالمظاهرة؟”

عندها ردّ قائلاً: “حبيبي، في شباب وصبايا عم ينزلوا كل فترة من سويدا ويشاركونا”.

كما أنني شاركت بعدد من مظاهرات دمشق وريفها.

*ما رأيك بالوضع الحالي وما آلت إليه الثورة؟

مع أن الوضع الحالي لا يدعو كثيراً للتفاؤل، إلا أن الأمل يبقى قائماً، ولا بد لإرادة الشعب أن تنتصر، أما ما آلت إليه الثورة: فإنني أرى أنها تمر بمخاض عسير، حيث اجتمعت معطيات كثيرة على وضع العصي في عجلتها، من مصالح دولية، إلى خيانات من يدعون انتماءهم إليها، ومن ثم زرع الفكر الطائفي المقيت في عقول شبابها وظهور داعش و”هيئة إغتصاب الشام” صنيعتا المخابرات، وتخاذل شريحة واسعة من المثقفين الذين نشطوا في بداية الثورة بعد تلقيهم للصفعة الأولى، وجنوحهم إلى ما يدعى بالوسطية.

  • يتحفظ “حرية برس” على ذكر اسم زوجة السيد فراس وقد تم الترميز إلى اسمها باستخدام الحرفين الأولين حرصاً على خصوصية الأشخاص بصرف النظر عن مواقفهم السياسية.
Comments

Sorry Comments are closed

    عاجل