هل يصبح الدولار ضحية لسياسات دونالد ترامب الانعزالية خلال العام الجاري؟
سؤال يشغل بال المستثمرين في أميركا والعالم، على الرغم من الارتفاع الجنوني في مؤشرات سوق “وول ستريت”، التي تجاوز فيها مؤشر “داو جونز” حاجز 25 ألف نقطة لأول مرة في تاريخه.
وفيما يواصل الرئيس، دونالد ترامب، التفاخر بأنه رفع مؤشر الأسهم الأميركية إلى هذه المستويات القياسية وأنه سيكسب سوق المال الأميركية قرابة 6 تريليونات دولار خلال العام الجاري، وفقاً لتغريدته، يوم الجمعة الماضي، يساور القلق خبراء الاقتصاد من المنزلق الخطر والمستقبل المظلم الذي ينتظر الدولار في عهده.
ومصدر القلق، حسب محللين، يعود إلى أن تدهور سعر صرف الدولار، يعني تناقص القيمة الحقيقية للثروة التي تحققت من ارتفاع سوق “وول ستريت”.
كما تشير دراسة صدرت أخيراً، من جامعة كاليفورنيا، إلى أن سياسات ترامب الانعزالية وهجومه المتواصل على العديد من دول العالم، ربما ستفقد الدولار جزءاً من مركزه العالمي كـ”عملة احتياط دولية” وكعملة تسوية رئيسية في صفقات التمويل والتجارة العالمية.
وتشير الدراسة التي نشرها ثلاثة أساتذة في ورقة بحثية إلى أن سياسات دونالد ترامب ربما تفقد الدولار حوالى 750 مليار دولار من وزنه في الموجودات العالمية خلال السنوات المقبلة. وهو ما يفوق 5.0% من الموجودات الدولارية في الخارج.
وترى الدراسة، والتي نشرها كل من البروفيسور باري إيشنغرين والبروفيسور آرنولد مهل والبروفيسورة ليفيا تشيتو من المصرف المركزي الأوروبي، أن قوة أية عملة وتأثيرها العالمي يعتمد على عاملين أحدهما اقتصادي والآخر أمني دفاعي.
وحسب الدراسة فإن 30% من قوة سعر صرف الدولار تعتمد على مركز أميركا كـ”دولة عظمى”، توفر الحماية للعديد من الدول الحليفة، كما توفر غطاء أمنياً للعالم في أوقات الأزمات، حيث عادة ما تحتفظ الدول التي تحميها الدولة العظمى بأكبر نصيب من احتياطاتها النقدية بعملة الدولة العظمى. وهذا ما يعطى الدولار وزناً في نظام النقد العالمي.
وحتى الآن، لم يفقد الدولار مصدر قوته من الناحية الاقتصادية، حيث إنه العملة الأوفر سيولة والأكثر أماناً وجاذبية من حيث الطلب وتلبية وظائف “عملة الاحتياط الدولية”، ولكن مركز أميركا كـ”دولة عظمى” بدأ يهتز بقوة منذ صعود ترامب للسلطة وتخليه عن المعايير التي تصنع الدولة العظمى حسب تقارير أميركية.
وفقدان الدولار لغطاء “الدولة العظمى” إلى جانب فقدانه جزءاً من الغطاء النفطي، جعله يخسر جزءاً من قوته على الرغم من عودة الاقتصاد الأميركي للنمو بقوة وحدوث أكبر انتعاش في سوق المال الأميركية وإجازة قانون إصلاح الضرائب الأميركي.
وحسب دراسة جامعة كاليفورنيا، فإن سياسات ترامب سلبت حلفاء واشنطن الغطاء الدفاعي الأميركي، وبالتالي اهتز موقف أميركا كدولة عظمى يعتمد عليها في لحظات الأزمات.
وترى الدراسة، أن ذلك سيكون له تأثير على وزن الدولار في تمويل التجارة العالمية والاحتياطات لدى البنوك المركزية. ومن المتوقع أن يستفيد كل من اليورو واليوان من تراجع الدولار.
وفي ذات الصدد، ترى مجموعة “سيتي غروب” المصرفية الأميركية، أن الدولار يتجه خلال العام الجاري لفقد 5.0% من قيمته مقابل عملات الدول المتقدمة اقتصادياً، وربما سيفقد نسبة أقل من ذلك مقابل عملات الدول الناشئة.
وعلى الرغم من أن “سيتي غروب” لم تشر لعامل ترامب في إضعاف الدولار، إلا أنها ترى في التوقعات التي نقلتها قناة ” سي إن بي سي” الأميركية، أن سعر صرف الدولار سيخسر بسبب انتعاش منطقة اليورو والتحول في مجرى التدفقات الاستثمارية نحو الصين وأوروبا.
وتضاف هذه العوامل في ضعف الدولار، إلى عامل آخر، وهو افتتاح بورصة العقود المستقبلية للنفط في شنغهاي والتي ستحول جزءاً من عقود ” البترو دولار” إلى “البترويوان”.
وتحت سياط الأزمات التي يخلقها الدولار لاقتصاديات الدول الناشئة، تواصل العديد من الدول التحول من الدولار إلى اليوان في التجارة وتتبنى نظام المقايضة في تسويات التجارة العالمية. وهذا العامل من المعتقد أن يكون له أثر كبير في الطلب على الدولار خلال السنوات المقبلة.
وعادة ما تحتفظ البنوك المركزية العالمية بالدولار لشراء سلع مهمة مثل النفط والغاز الطبيعي وتسوية صفقات الصادرات، حيث يطالب المصدرون الدول بالدفع بالدولار في تسديد فواتير الصادرات.
في هذا الصدد تشير إحصائيات سوق الصرف الأجنبي في لندن، إلى أن الدولار فقد خلال العام الماضي 2017، نسبة 10% من قيمته مقابل اليورو و5.5% من قيمته مقابل اليوان، كما سجل الدولار في سوق الصرف العالمي، ثاني أسوأ أداء في العام الماضي بعد العملة النيوزيلندية. ويعد هذا التراجع في سعر صرف العملة الأميركية الأسوأ منذ أكثر من عقد من الزمان.
كما أن تراجع الدولار يحدث في وقت رفع فيه مصرف الاحتياط الفدرالي “البنك المركزي الأميركي” سعر الفائدة ثلاث مرات وأجاز فيه الكونغرس قانون إصلاح الضرائب. وهي إجراءات يفترض من الناحية الاقتصادية أن ترفع سعر صرف الدولار، حيث يعني عادة في علم الاقتصاد رفع الفائدة على عملة ما، زيادة سعر صرفها، كما يجبر قانون إصلاح الضرائب في بعض بنوده معاقبة الشركات الأميركية التي تضع إيداعاتها بالخارج، وهو ما يعني عملياً عودة جزء كبير من إيداعات الشركات الأميركية في الخارج المقدرة بحوالى تريليوني دولار بالبنوك الأجنبية في آسيا وأوروبا ومناطق الأفشور إلى أميركا.
وكانت وكالة بلومبيرغ قد توقعت أن تقود عودة هذه الدولارات إلى أميركا إلى إحداث نقص في السيولة الدولارية المتاحة للبنوك في دول العالم، وذلك في أعقاب طلب بنوك مركزية فتح خطوط ائتمان بالدولار في نطاق ما يسمى في عالم المصارف “سواب” أو تبادل العملات لتغطية نقص طارئ مقابل فائدة بسيطة. ولكن في أعقاب ارتفاع الدولار لفترة وجيزة في شهر ديسمبر/ كانون الأول، عادت الورقة الخضراء للانخفاض.
ومنذ تولي ترامب الرئاسة، بدأت العديد من دول العالم البحث عن مخرج من الدولار وأزماته، حيث تخلى عدد منها عن استخدام العملة الأميركية في التسويات التجارية، كان آخرها باكستان التي تحولت إلى اليوان في تسوية صفقاتها التجارية واستثماراتها مع الصين التي تمول مشاريع تفوق قيمتها 50 مليار دولار ضمن حزمة “الممر الاقتصادي”. كما لجأت دول مثل تركيا إلى صفقات المقايضة لتقليل الطلب على الدولار.
ويمنح الدولار أميركا نفوذاً واسعاً في العالم، ليس فقط على الصعيدين المالي والنقدي فحسب، بل كذلك على صعيدي النفوذين السياسي والعسكري وإجبار الدول على تنفيذ سياستها عبر الحظر المالي والاقتصادي، وذلك حسب البحث الذي أصدره أستاذ الاقتصاد السياسي، البروفيسور جوناثان كيرشنر، الذي يعمل حالياً بجامعة هارفارد الأميركية.
ويكفي للتدليل على الميزات التي يمنحها الدولار لأميركا وشركاتها، القول إن طباعة ورقة من فئة مائة دولار تكلف أميركا حوالى 12 سنتاً فقط، ولكنها تشتري بها بضائع وخدمات من العالم قيمتها مائة دولار، وذلك حسب ما ذكرت البروفيسورة الأميركية لان كاو، في كتابها الصادر حديثاً بعنوان “حرب العملات وتعري هيمنة الدولار”.
من هذا المنطلق تجد دول العالم صاحبة الثقل الاقتصادي الكبير، في البحث عن منفذ من قبضة الدولار، الذي وصفه وزير الخزانة الأميركي، جون كوناللي، في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون بقوله “الدولار هو عملتنا ولكنه بالنهاية هو مشكلتكم”. والوزير كوناللي هو الذي أخرج الدولار من المعيار الذهبي (أوقية الذهب تساوي 42 دولاراً) في العام 1973، إلى التعويم.
وهذا تحديداً ما واجهه العالم، من مشاكل، منذ تحرير الدولار من الارتباط بقيمة ذهبية، إلى الطباعة بدون حساب. ومنذ ذلك الوقت أصبحت أميركا تطبع أوراقاً نقدية دون حاجة لغطاء وتتاجر في شراء وبيع سلع وخدمات العالم، لتخلق، مشاكل حرب العملات المتكررة وأزمة المال العالمية في العام 2008، والحصار الاقتصادي والمالي. ويعد تعويم الدولار، من العوامل التي ساهمت في إغراق أميركا في الديون لتصل إلى 20 تريليون دولار والسبب في التمويل السهل للعديد من الحروب التي زرعت الفساد والتمزق في العالم.
Sorry Comments are closed