قصة قصيرة بقلم: هالة الكفري
عن حادثة حقيقية من درعا تشبه مئات وربما آلاف القصص الحقيقية
ويستمر الوجع… بعد أربعة بنات وثلاث ذبائح لوجه الله، جاء الفارس …
صبي أسمر، ملامحه تشي بسعادة غامرة، فتملأ الفرحة قلوب الجدات وتطمئنّ العمات والخالات ونساء القرية، والأهمّ من ذلك كلّه هي الأمّ التي رأت في حضور وليدها سنداً لها، وظلاً تستريح تحت جناحه عندما يستبيح العجز مفاصلها الفتيّة، وكان فارس!
كبر على ما يستقيم به المثل: “كل شبر بنذر ” وتدلل على أيدي خمس نساء، كل واحدة منهنّ كانت تكلؤه بالرعاية والعناية؛ ليصبح فارس طفلاً قويّاً جميلاً في عيونهنّ، طفلاً كبر بسهر الأمّ وتوق الأخوات لأخٍ يضمّهن إلى قلبه كلّما عصفت بهنّ رياح الضيم والحيف.
عندما أتمّ الثالثة عشرة، كانت صيحات الثورة تنطلق في حارة أمه القديمة في درعا البلد بقريته القريبة نسبياً، بدأ شباب القرية بالهتاف شهوراً، ثمّ حملوا البنادق ومضوا وراءها.
كان الصبي يشاهد ويستمع لقصص أبناء حارته وما يحدث معهم في تلك المواجهات، وكانت أمينة الخائفة تحصّن ابنها وتمنعه من الانسياق وراء تلك الصيحات، (يايمه أنت صغير)، لكنّ شباب الحارة كان رأيهم مغايراً لخوف أمّه، فراحوا يعيرونه بالجبان وبأنه “مدلل أمّه الوحيد”.
بعد مداهمة وحوش “الأمن” بيت أهله وشتم أمه وأخته، جُنّ جنون الصبي، وبدأت نار الغضب تستعر في داخله ممزوجة بقهر الشباب وسخريتهم.
هرب فارس تاركاً وراءه استجداء أمّه، والتحق بأقرب مجموعة ليشحذ رجولة وبارودة، لكنّ أمينة لم تستسلم، واستطاعت في غضون عشرة أيام إعادته إلى البيت مع قفل للباب بحجم رأسه.
هدأت غضبة الصبي وتاب على وقع إلحاح أمّه، والتزم بفطورها و صلاته، لكنّ الأيام كانت تخبئ في طياتها المخيف، فقد اشتاق فارس لأخواله في درعا، وبعد إلحاح شديد عليها، ركب (الميكرو) مع أمه وأخواته، ومرّت الأمور بهدوءٍ وسلام في الحاجز الأول.
نظرات أمينة وصلواتها والعرق المتصبب من ثيابها خوفاً لم تجدِ نفعاً عند الحاجز الثاني، أخذوا فارس، وارتمت أمينة أرضاً تتوسل وتبكي كي يتركوا ابنها…
شهر، اثنان … أربعة مرّت دونما فائدة في معرفة مكان اعتقاله، قبل أن يجيئها الخبر بأنّه في الفرع ” …” وأنه لا يرى بعينه اليمين ولا يستطيع الوقوف على قدميه:
– معليش المهم عايش، بس يطلع ببيع الأرض وباخدو ع الأردن ومنعالجه.
صَدر العفو، زغردت أمينة فرحة ًبما يرسمه خيالها من لقاءٍ يجمعها بفلذة كبدها، لكنّ الأيام تمضي … شهر، اثنان.. ولا مُبشر بقدومه، وبدأت الدوامة من سجن عدرا إلى القضاء ثم إلى الشرطة العسكرية حيث الخبر اليقين.
هناك في الممر الطويل تكدس الأهالي يسألون.. حيث كانوا ينادون بأسماء الأمهات؛ الغرفة اليمين لمنح الأذن بزيارة المعتقل، واليسار لاستلام أغراض المتوفى.
مَرت الساعات دهراً، تلت فيه أمينة نصف القرآن، لكنه نصيبها كان في اليسار:
– هي هويته وساعته.
– هي مش إلو.. خذها.
المرأة المتماسكة طلبت من الشرطي هاتف ابنها المحمول.
– ما كان معه موبايل.
– يا خوي والله كان، هو مش محرز بس فيه صوره.
– مابتفهمي أنت؟ يلي بعدها…
في الخامس عشر من رمضان أقامت أمينة عزاءً مختصراً بلا جثة ولا حتى شهادة وفاة، كانت تردد عبارة واحدة أمام المعزيات
– حسبنا الله، بس لو خلوني أشوفك يايمة، بس …!
عذراً التعليقات مغلقة